اليسار اللبنانيّ المعطوب… كارل ماركس راجع

مدة القراءة 6 د

كانت عبارة “كارل ماركس راجع” التي كُتبت على بعض جدران بيروت كفيلةً بفتح نقاش قديم جديد، ونكء جراح لم تندمل بعد، في بلد يسيطر عليه الجمود وتكاد الأحزاب والقوى الماركسية فيه تصبح بوقاً لقوى طائفية وصدى لأصواتها.

 

 

 

“كارل ماركس راجع”. قبل أيام صحت مدينة بيروت على هذه العبارة مكتوبة على بعض جدرانها. لم يُعرف كاتب هذه العبارة أو كتّابها، ولا ما إذا كانت تقف وراءها مجموعات يسارية أو حزب ما أو مجموعة من السهارى الشباب كتبوها وهم عائدون إلى منازلهم من سهرة عارمة أو من رحلة تسكّع طويلة. لكنّها عبارة فتّحت مواجع كثيرة في وطن تقلّص فيه اليسار إلى حدود منشور أو بيان يصدر بين الحين والآخر عن الحزب الشيوعي اللبناني أو عن منظّمة العمل أو عن حركة أو مجموعة يساريّة ما.

غالبيّة أهل بيروت وسكّانها لا يعرفون الرجل. الأرجح أنّ بعضهم بحثوا عنه في هاتفهم عبر غوغل، فطالعتهم صورته: رجل ملتحٍ طاعن في السنّ تقترن باسمه مفردات من قبيل “شيوعي”، “شيوعية”، “يسار”… إلخ.

حتماً لا تبعث محصّلة البحث على الاطمئنان في بلاد تهيمن عليها الطوائف ويمسك بأعصابها وأعنّتها السياسية الفكر الديني المتزمّت والحركات والأحزاب الدينية الإسلامية والمسيحية: من الحزب إلى “جنود الربّ”.

أكثر من ذلك، العبارة نفسها لا تبعث على الاطمئنان. إذ سبقتها قبل سنوات عبارة مشابهة سرعان ما انقلبت كابوساً وانهياراً اقتصادياً وفراغاً سياسياً وغير سياسي، ولا يزال اللبنانيون يعانون من تبعاتها. العبارة هي “عون راجع”.

يسار جامد

“كارل ماركس راجع”: أهلاً وسهلاً. لكن إلى أين؟ ولماذا؟ وما المقصود بالعبارة؟ بشارة هي أم وعيد؟ لم يغِب كارل ماركس ليرجع. فكر الرجل مطروح منذ عقود كثيرة على طاولات الحوار والبحث. ربّما لم ينَل فيلسوف ومفكّر ما ناله كارل ماركس من اهتمام ودرس وبحث وتأييد ومعارضة. الرجل لم يغِب ليرجع.

كانت عبارة “كارل ماركس راجع” التي كُتبت على بعض جدران بيروت كفيلةً بفتح نقاش قديم جديد، ونكء جراح لم تندمل بعد

كارل ماركس لم يمرّ في حياته على لبنان ولم يزُره ليرجع إليه. الأرجح أنّ المقصود بالعبارة أنّ اليسار اللبناني راجع. حبّذا لو يرجع، ولكن كيف؟ الأحزاب اليسارية في لبنان اليوم تكاد تكون نسياً منسيّاً لولا بعض البيانات. النقابات دُجِّنت بالكامل. البطالة تكاد تقضي على العمّال من الأصل.

الأحزاب والحركات الشيوعية والماركسية تكاد تكون بلا ثقل أو وزن. غائبة هي عن القضايا كلّها. منذ عقود لم تطرح برنامجاً إصلاحياً يعيد إليها شيئاً من بريق فقدَته. حالها هذه لا تتّصف باللبنانية فحسب. حالها هنا من أحوالها في دول العالم كافّة. لكنّها هنا مدجّنة بالكامل.

اليسار اللبناني جزء من الجمود الذي يغرق فيه البلد منذ زمن طويل. اليسار الذي في معناه الحقيقي هو ثورة دائمة على كلّ جامد صار صيرورة دائمة. حالة من الرفض مستمرّة إلى ما لا نهاية، لكن ليس في سبيل العدم. بل في سبيل التطوّر الدائم والتجديد الأزليّ.

تكاد الأحزاب والحركات اليسارية اليوم تكون جامدةً أكثر من جمود البلد، وأكثر من غيرها من الأحزاب الجامدة. اليمين التاريخي في لبنان اليوم يسرح ويمرح، على علّاته التاريخية أيضاً.

اليمين التاريخي يجدّد نفسه كلّ يوم، ويواكب التطوّرات. يبدو في بعض المواقف والأحيان يساريّاً أكثر من الأحزاب والحركات الشيوعية والاشتراكية. وللعلم صفة “الاشتراكي” تكاد تذيّل غالبية أسماء أحزاب لبنان. بند ثابت في برامج معظم الأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

اليساريون عندنا من صنوف “سهر الليالي”، أو ممّن يصطدمون بوقائع يومية فيعلنون “يسارية غباريّة”. بعضهم يذهب إلى مخافر الشرطة بسبب تعنيف أطفاله أو زوجته؟ الأسوأ منهم أولئك الذين يعتبرون النظافة الجسدية انتقاصاً من فكر يساري لا يعرفون نصوصه المرجعية. لا يعرفون أنّ اليسار معرفي بينما اليمين شعبوي وغرائزي.

كارل ماركس لم يمرّ في حياته على لبنان ولم يزُره ليرجع إليه. الأرجح أنّ المقصود بالعبارة أنّ اليسار اللبناني راجع

يسار بلا قضايا

أين الحزب الشيوعي؟ أين منظّمة العمل الشيوعية؟ وأين “اليسار الديمقراطي”؟ ليس مُستحبّاً الرجوع بعيداً في الزمن. منذ الأزمة الاقتصادية الحادّة في عام 2019 حتى اليوم: ماذا فعلت الأحزاب والقوى اليسارية؟ ما القضايا التي رفعت لواءها؟ وكيف؟ ما البرامج والإصلاحات التي طرحتها؟ حتى المواقف الخجولة التي اتّخذتها، لماذا لم تلقَ آذاناً صاغية؟ لماذا لم يضجّ بها البلد وتهتزّ عند سماعها أعمدة السلطة والنظام الاقتصادي؟ أينها من حقوق المودعين؟

أين مبادرات القائد الشيوعي التاريخي جورج حاوي، في هذا الفراغ السياسي القاتل؟ أين الحزب الذي أطلق ذات يوم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول”، ممّا يجري في الجنوب؟ وهذه طبعاً ليست دعوةً إلى الانخراط في الحرب القائمة في الجنوب ولا هي دعوة إلى الانكفاء عنها. ولكن أين الموقف اليساري ممّا يجري؟ هل بات الحزب الشيوعي اللبناني مجرّد متلقٍّ للبيانات الصادرة عن الحزب، ومجرّد مؤيّد وتابع من الدرجة الخامسة؟

ذات عصر ذهبي كان البرنامج الإصلاحي الحقيقي والوحيد المطروح في لبنان هو برنامج الحركة الوطنية. للأسف لا يزال صالحاً حتى أيامنا هذه بغالبيّته، لكن أين هو؟ من يرفع لواءه؟ من يطرحه؟ أين الشباب الثوريون ذوو النزعة التغييرية؟ ما القضايا التي تشغل بالهم؟ المساواة بين الرجل والمرأة؟ حقوق المثليين؟ القضايا النسوية؟ الديمقراطية؟ تغيير السلطة؟ هذه كلّها قضايا يطرحها المجتمع المدني ومنظّمات الـ”إن.جي.أوز”. الأحزاب الدينية والأحزاب اليمينية تطرح غالبيّتها أيضاً. دُمّرت أجزاء كبيرة من العاصمة بيروت بانفجار المرفأ ولم نرَ يساراً ولا يساريّين. أُكلت حقوق المودعين كاملةً ولم نرَ يساراً ولا يساريين. تجدّد السلطة لنفسها كلّ يوم ويكتفي اليسار بعدم التصفيق فقط لا غير.

اليسار اللبناني جزء من الجمود الذي يغرق فيه البلد منذ زمن طويل. اليسار الذي في معناه الحقيقي هو ثورة دائمة على كلّ جامد صار صيرورة دائمة

أهلاً بالشيوعيّة وكارل ماركس

“كارل ماركس راجع”: أهلاً وسهلاً. لكن من المؤكّد أنّه لن يزور الوتوات (مقرّ الحزب الشيوعي اللبناني) ولن يتوقّف عند وطى المصيطبة (مقرّ منظمة العمل الشيوعي سابقاً). لن يعرّج على الاتّحاد العمّالي العامّ. لن يشارك نقابات السلطة إضراباتها التي لم نعد نعرف كيف تقوم ولا كيف تُفكّ. حجم المهزلة أنّه قد يشارك في إفطار رمضاني هنا أو هناك. ربّما يزور قدّيسين هنا وهناك لئلّا يعتب عليه أحد. أو ربّما قد يمرّ على حانة ويحتسي كأساً ثمّ يغادر. الأكيد أنّ الأحزاب والحركات والقوى اليسارية ستعدّ عليه أنفاسه، وستعدّ الدقائق والثواني الفاصلة عن لحظة مغادرته. حتماً ستخجل منه وستوصله إلى باب الطائرة و”ترجع حليمة لعادتها القديمة”.

إقرأ أيضاً: يحيى جابر يفتح جرح جمّول: بيّي… حارب وانهزَم بِعَنجَر

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…