يحلّ الاستحقاق التشريعي الأوروبي في 6 حزيران المقبل، و فرنسا ليست بأفضل حال. تشعر بثقل ومسؤولية، هو امتحان كبير لها. تمرّ الإدارة الفرنسية في مرحلة حسّاسة جداً. يجعلها باحثة عن مُخلّص جديد يشبه “طانيوس شاهين”* في التاريخ اللبناني.
تحوّلت إلى عرّابة الوحدة، في البناء الأوروبي لعدة أسباب:
1- خروج بريطانيا مع البريكسيت.
2- غرق ألمانيا في حوض تلبّكها وازدياد ضعفها وتردّدها، خاصة بعد الغزو الروسي وخسارتها الغاز الروسي الرخيص.
3- الحرب الروسية – الأوكرانية، التي أدّت إلى تراكم الأحداث وتكتّل الأزمات وانفلاش الصراعات داخل البيت الأوروبي وعلى الحدود وفي مناطق النفوذ والأصدقاء.
4- تصدّر اليمين المتطرّف والمحافظين المتشدّدين.
5- تراجع دعاة ليبرالية التجديد وحزب الخضر، خاصة في معقلهم (فرنسا وألمانيا).
6- المشاكل الاقتصادية المتمثّلة في التضخّم والركود والانكماش والأعباء الضريبية والتجارية.
7- معضلات الهجرة واللجوء ومكافحة الإرهاب.
تعاني فرنسا من المشاكل السياسية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية ذاتها. هي مرآة أوروبا، وانعكاس لمشاكلها القارّية. تتحضّر الإدارة الفرنسية مع القارّة العجوز لإجراء الاستحقاق. فيما أوروبا تمرّ في لحظة مصيرية. هو اختبار جوهري لكلّ أنواع ومعايير الوحدة، وأساليب الاندماج والشراكة الأوروبية. انطلاقاً من تغوّل اليمين غير الوحدوي، إلى المشاكل الاقتصادية والهيكلة الضريبية، والمطالب المعيشية. ربّما أبرزها ثورة المزارعين التي تحوّلت إلى مسألة أوروبية شاملة، وليس فرنسية فقط. بدت فيها فرنسا وكأنّها بحاجة إلى قائد جديد للعمّال والفلاحين، إلى “طانيوس شاهين” الفرنسي.
يحلّ الاستحقاق التشريعي الأوروبي في 6 حزيران المقبل، وفرنسا ليست بأفضل حال. تشعر بثقل ومسؤولية، هو امتحان كبير لها
انساع الفجوة الأوروبية
تزداد الفجوة كلّ يوم بين الدول الأوروبية على المستوى الوطني، والمجموعة على الصعيد الاتّحادي. خصوصاً مع استمرار صعود الشعبويين من اليمين المتطرّف المنادين بالعزلة والانطوائية. تقف أوروبا أيضاً على مفترق طرق، هاجس الانفكاك يؤرقها. يتحوّل الاتحاد إلى عدّة اتّحادات، فيما قد تصبح الجمهورية الفرنسية عدّة جمهوريات. لذلك تحاول الإدارة الفرنسية استثمار هذه الاستحقاقات لمصلحتها كدولة وطنية، ولمصلحة الاتحاد الأوروبي الذي تدعم وحدته بشدّة، عبر تنفيذ “الإيكوسيستم” الدقيق المتمثّل في أنّ “حماية الجمهورية الخامسة مسألة سيادة، وتحصين القارّة الأوروبية وحماية اتّحادها مسألة وجود وانتماء”. فهل تنجح الإدارة الفرنسية في ذلك؟ وهل يحافظ الاتحاد الأوروبي على وحدته المكتسبة؟
تحاول الإدارة الفرنسية أن تضع حدّاً لكلّ محاولات التفكّك التي تسعى بعض الأحزاب إلى فرضها على الأجندة الأوروبية عبر:
1- إنعاش وإعادة تأسيس البيت الأوروبي الموحّد.
2- تطبيق رؤى تساهم في ردم الشرخ الكبير بين الحلم الأوروبي والواقع الاجتماعي الفرنسي.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إتّبع النهج الوسطيّ من أجل حماية الوحدة، مستنداً على 4 خطوات:
– جذب الناخبين من فئة المتردّدين والمستقلّين.
– استمال أطرافاً من اليمين واليسار.
– عرقل فوز اليمين المتطرّف الانعزالي، المؤيّد لشعار “الفريكسيت”. فلم يستطع اليمين المتطرّف أن ينفّذ سياسته العنصرية، لأنّها تتعارض مع الدستور الفرنسي، الذي يطبّقه الرؤساء الفرنسيون جميعهم، سواء من اليمين أو اليسار.
– خفّف من حدّة تأثير وضياع اليسار والشرذمة الاشتراكية على الدولة.
تدنو الانتخابات التشريعية القارّية، مع هيمنة المشهديّات المتناقضة، والصورة القاتمة من أوروبا الخائفة وفرنسا المرتبكة. تتحكّم في هذه التوصيفات أربعة عوامل:
– التطوّرات الجيوسياسية العالمية.
– قصور الاختيارات الاستراتيجية.
– كمّ الأيديولوجيات الشعبوية والقوميات السطحية.
– محاصرة فرنسا عبر المشاكل الداخلية.
تعاني فرنسا من المشاكل السياسية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية ذاتها. هي مرآة أوروبا، وانعكاس لمشاكلها القارّية
فرنسا أمّة عالمية
منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، تعتبر فرنسا نفسها أمّة عالمية، لا بلداً غربياً فقط. وهي تتحضّر للانتخابات الوحدوية القارّية مع جدليات واسعة حول:
– الانسجام بين الهويّة الفرنسية الوطنية والهويّة القومية والأوروبية.
– الكيفية الإيجابية بين النظام السياسي الفرنسي المحلّي، وفكرة الاندماج الهيكليّ الاتّحادي.
– الصراع الجذري الثقافي والعمق التاريخي الحضاري.
تقترب فرنسا من الاستحقاق الأوروبي مع عنوان كلاسيكي بحت، وهو “تكامل الهويّة الفرنسية مع هويّة الوحدة الأوروبية”.
يقع على عاتقها الدور الرئيسي بعد انسحاب بريطانيا وتردّد ألمانيا. لا تهرب من رغبتها في إصلاح المؤسّسات. تستعدّ لتطوير الهياكل المؤسّسية للمجلس والبرلمان الأوروبيَّين، لكي تستجيب أكثر لخدمات العدد الأكبر من الأعضاء. مع تأكيد الطابع الديمقراطي للاتحاد، تصرّ على النظر في مسألة تعارض الصلاحيّات بين المفوضية الأوروبية وحكومات الدول الوطنية، خاصة في ما يتعلّق بسوق العمل والنظام الضريبي والعملة الموحّدة. لن تطمئنّ فرنسا إلا إلى جوار يشبهها ويماثلها، وإلّا إلى محيط يؤمن بما تؤمن هي به. فهي حاملة لواء التماثل الذي يُعتبر الثابت الجوهري في دستور 1958 الحالي.
ساهمت الحرب الروسية على أوكرانيا في:
1- خلق دفع كبير وإيجابي في تشكيل “نواة أوروبية جيوسياسية”.
2- توحّدت القارّة مع إمكانية تشكيل هيكل قارّي بمقدوره تحديد الأهداف وفرض الحلول والاستراتيجيات المشتركة.
فيما بلورت حرب غزة مفهوماً معاكساً تماماً:
1- جعلت المساحة الجغرافية الفرنسية كتاباً مفتوحاً.
2- ارتفعت خلالها مادّة الانقسامات العميقة داخل المجتمع الفرنسي إلى الحدّ الذي أضحت فيه غير مقبولة.
3- ظهرت الانقسامات داخل المؤسّسات المشتركة في ظلّ غياب نهج اتحادي واضح، وخاصة مع دول الجوار الجنوبي. حيث تجلّت الخلافات المتعدّدة والمتنوّعة بين مختلف دول القارّة والاتحاد، لا سيما بين فرنسا وألمانيا، وظهرت تكتّلات ضمن الاتّحاد الأوروبي.
منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، تعتبر فرنسا نفسها أمّة عالمية، لا بلداً غربياً فقط. وهي تتحضّر للانتخابات الوحدوية القارّية مع جدليات واسعة
سيكون العالم من دون أوروبا الموحّدة والقويّة أكثر فقراً وأقلّ أماناً. إذ تدور أوروبا في حلقة مفرغة. وتفتقر فرنسا فيها إلى الكتلة اللازمة معها وهي ألمانيا. جعلها ذلك عرضة لقوى مزعزعة للاستقرار موجودة داخل حدودها. وهنا الخطورة. أصبحت معرّضة لخسارة قوّتها الناعمة أكثر، وذلك ما تريد أن تعوّضه في هذه الانتخابات.
إقرأ أيضاً: فرنسا بين ديغول وماكرون: سلطة الجمهورية الخامسة.. أقوى من الناس
يشكّل هذا الحدث فرصة للعودة الفرنسية إلى المسرح العالمي من البوّابة الأوروبية. تسعى إلى تخطّي الانكماش الفرنسي في أوروبا ومعالجة الانكماش الأوروبي القارّي. تسعى إلى لعب دور فاعل سياسي دولي، ومحدّد للسياسات الأوروبية. هل تكون لها علامة فارقة؟ وهل تتمكّن فرنسا من جعل توجّهاتها الوطنية خطوطاً عريضة للتحرّكات الجيوسياسية الأوروبية؟
* قائد ثورة الفلاحين في منطقة كسروان عامي 1858 و 1860. اسمه طانيوش شاهين سعادة. غير متعلّم وكان يعمل في البيطرة. عندما قاد الثورة ضد آل الخازن الإقطاعيين كان في الـ43 من عمره. قبل انتخابه زعيماً على الفلاحين كان “شيخ شباب” بلدة ريفون. خلف صالح صفير الذي استقال من مهمته بسبب شعوره بالخطر. بعد انتخابه اتخذت الثورة صفة جديدة. يوصف بأنه طويل القامة قوي البنية. في عام 1861، ألغى شاهين الجمهورية التي أسسها في كسروان وبعد تقاعده من العمل السياسي، خدم كمسؤول قضائي في ريفون. وهناك توفي عام 1895 في غموض نسبي. حيث أنه لم يترك أي مذكرات عن دوره في الحرب الأهلية.
لمتابعة الكاتب على X: