فرنسا بين ديغول وماكرون: سلطة الجمهورية الخامسة.. أقوى من الناس

مدة القراءة 8 د

منذ انطلاقتها في عام 1958، تتعرّض الإدارة السياسية لفرنسا في الجمهورية الخامسة لموجات شرسة من المعارضة. تعوّدت النقد الجذري للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في فرنسا بشكل خاصّ، وفي أوروبا على العموم… في هذا التقرير، يستعرض الزميل الخبير في شؤون “فرنسا” الدكتور محي الدين الشحيمي أبرز مشاكل الجمهورية الخامسة، من حقبة الرئيس شارل ديغول في منتصف القرن الماضي… وصولاً إلى ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون اليوم.

 

خمسون عاماً ولا تزال الجمهورية الخامسة في فرنسا تعيش الأزمات نفسها، من بدايتها إلى نهايته.

هناك بيان حمل عنوان “البؤس الطلابيّ”. وقّعته مجموعة من طلاب جامعة استراسبورغ الأعضاء في الاتحاد الفرنسي للطلبة في عام 1966. وشكّل الحجر الأساس للمسيرات الاعتراضية التي انطلقت في عام 1968. اشتعلت آنذاك الاحتجاجات. بدا وقتها أنّ باريس على شفير هاوية الحرب الأهلية. امتدّت هذه الاضطرابات المدنية إلى حوالي سبعة أسابيع.

تغيّرت الظروف والأحداث في نهاية شهر أيار 1968، بعد سلسلة من الوساطات والمفاوضات. حقّقت اتفاقية “غرينيل” ربحية كبيرة في أجور العمال. اتفاقية أُبرمتها الحكومة مع النقابات العمّالية وأرباب العمل. في 27 أيار من العام نفسه. فنفّست الاحتقان.

جمهور السلطة، عبر تظاهرة مضادّة نظّمها الحزب الديغوليّ “اتحاد الديمقراطيين من أجل الجمهورية” في وسط باريس، دعم الجنرال ديغول بالثقة لحلّ “الجمعية الوطنية الفرنسية“. فدعا إلى إجراء انتخابات برلمانية في 23 حزيران من عام 1968. حينها تلاشى العنف بنفس السرعة التي نشأ فيها عند بداية الأحداث. وعاد العمّال إلى وظائفهم. وظهرالديغوليون أقوى بعد إجراء الانتخابات.

المشهد نفسه يتكرّر.. منذ 50 عاماً

يستمرّ تأثير أحداث أيار 1968 على المجتمع الفرنسي إلى يومنا هذا. ويتكرّر المشهد كما لو أنّه سمة الجمهورية الخامسة في فرنسا.، منذ ديغول إلى ماكرون.

حقّقت اتفاقية “غرينيل” ربحية كبيرة في أجور العمال. اتفاقية أُبرمتها الحكومة مع النقابات العمّالية وأرباب العمل. في 27 أيار من العام نفسه

نجحت خلال نصف قرن هذه الحركة بما هي ثورة اجتماعية وليست سياسية. لا تزال الإدارة الفرنسية غارقة في نفس المفهوم. تعيش بعد أكثر من خمسين سنة، النسق التعبيري ذاته، والروتين الاجتماعي عينه. تبدأ المشاكل كخليط من الأحاديث العشوائية. تتنظم بعدها عبر التصريحات والمعتقدات والسياسات. تستثمرها الأيديولوجيات ذات الأهداف السلطوية الدائمة. تتركّز ظاهرياً كما في كلّ مرّة على الاحتجاجات العمّالية والاجتماعية. وعقبات الحلول الاقتصادية. والعجز عن منح الزيادات والمساعدات والأجور. تقدّم كلّها في قالب اجتماعي وأكاديمي حسّاس جداً. يتناول أمور الخطّ الأحمر من الكرامة الحياتية والإنسانية. إلا أنّها تتمحور حول انحراف ممارسات الإدارة السياسية عن قيم ومبادئ الجمهورية الخامسة. تتسبّب هذه المشهدية في توسّع الفجوة في العلاقة بين كلّ من مؤسّسات الحكم والشعب وتساهم في تأجيج النقمة السياسية العارمة.

تواجه الجمهورية الخامسة في فرنسا تحدّيات عديدة، في مجتمع سريع التغيّر والاستجابة. يواصل الرئيس ماكرون سياسة إطلاقه الرشقات الإصلاحية الدستورية الاجتماعية والتنموية والاقتصادية والسياسية. يعرف تمام المعرفة الهشاشة المجتمعية الآنيّة، والشرذمة القياسية التكاملية عند الشعب الفرنسي. تجمّعت كلّ هذه الندبات نتيجة العديد من المتغيّرات والكثير من الأزمات العالمية والفرنسية المحلّية. بدءاً من أزمة الديون السيادية العالمية ومشكلة الدين العالمي، ومعضلات التضخّم والركود. أتت أزمة كورونا الكونية التي أثقلت كاهل الاقتصاد الفرنسي، وزادت من الأعباء على الطبقة المجتمعية الفاعلة والوسطى التي هي إكسير حياة الجمهورية الخامسة.

يستمرّ تأثير أحداث أيار 1968 على المجتمع الفرنسي إلى يومنا هذا. ويتكرّر المشهد كما لو أنّه سمة الجمهورية الخامسة في فرنسا.، منذ ديغول إلى ماكرون

فشل ماكرون في إشباع رغبات الفرنسيين

تتأرجح معيارية العهدين الماكروني الأوّل والثاني الحالي على مقياس نسبية النجاح والفشل. في حين أنّ الحقيقة واحدة، وهي أنّه لم يتمكّن من إشباع رغبات الشعب الفرنسي. ولم تتبدّل نوعية الاحتجاجات المرافقة لشعب الجمهورية الخامسة في فرنسا. على الرغم من اعتبار الرئيس ماكرون من أشدّ الرؤساء الفرنسيين وحيلة ومعرفة. إذ إنّ السلطة في الإدارة الفرنسية هي الأقوى.

يكثّف عاملان الضغوط المفروضة على السلطة الفرنسية:

  • الأوّل: الرأي العامّ. أضحى الشعب الفرنسي شديد الوعي والحساسية. تزايدت وتيرة متابعته لكلّ المجريات. بات أكثر استجابة في مواجهة المطبّات وتعاظم حجم الاحتياجات الملحّة إزاء السياسات العاجلة.
  • الثاني: الشعور المعنوي والحسّي الفرنسي. جعلت العقود الأخيرة من الفرنسيين أكثر تشاؤماً. بزيادة 15%-20% مقارنة مع بقيّة شعوب العالم. حين يتمّ سؤالهم عن مدى سعادتهم أو تطلّعاتهم بشأن مستقبلهم أو حتى مصير بلادهم. ولا تكمن المشكلة هنا في تراجع قيمة اقتصاد السوق، وفي أنّه أقلّ شعبية مقارنة مع دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية فقط. بل في أنّه أمسى اقتصاداً أقلّ شعبية حتى مقارنة مع الصين وروسيا.
  • فرنسا

يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المطالب والحراكات الاجتماعية ذات المرجعيات والأماني المتعدّدة. هي التي أسهمت كما في كلّ مرّة في مزيد من الانقسامات والمواقف. وكذلك الانطباعات حيال سياسته على مختلف الأصعدة المحلّية الفرنسية والأوروبية، بالإضافة إلى الدولية. واجه حركة السترات الصفر. وهي أوّل حركة مطلبية خلال رئاسته. أصبح خبيراً في طريقة التعامل مع الإضرابات العمّالية والتقاعدية، وفي كيفية امتصاص وتجفيف الشارع من غضب الناس ودوّامة عنفهم. يعمل على حلّ مشكلة الاندماج عبر التشريعات والقواعد والقوانين الملائمة التي تفيد من وجهة نظره الواقع الفرنسي وديمومة الجمهورية.

الأولوية للتعليم.. لإنتاج النخب

تعطي الحكومة الفرنسية الأولويّة إلى العديد من المشاكل الاجتماعية، وفي مقدَّمها النظام التعليمي الأساسي والجامعي. تعمل على سياسة الشفافية في الفرص والمساواة لناحية الجدارة. وترصد الكثير من الإمكانيات لإصلاحه أكثر وتطويره. تشدّد على تطوّر النظام التعليمي الأساسي والجامعي. تدعم بشدّة موضوع تفوّق الجامعات والتصنيفات الأكاديمية العالمية.

تسعى الإدارة الفرنسية بقيادة ماكرون، في الجمهورية الخامسة، إلى نسج مسوّدة “إعادة الابتكار” لحضور فرنسا عالمياً

ينصب جلّ الهدف على ثقل المنظومة التعليمية بغية تحقيق مقصدها الأصلي. وهو “إنتاجية النخب الخلّاقة والمبدعة”. وهو ما زاد من قلق الإدارة الفرنسية حالياً برئاسة ماكرون. حيث انخفضت نسبة الخرّيجين الفرنسيين في الكلّيات والجامعات العمليّة الفرنسية. هجر الفرنسيون العديد من الاختصاصات والمهن الحرّة الأساسية لمصلحة الاختصاصات السريعة. يرغبون أكثر في دخول غمار سوق العمل بشكل سريع ومباشر. وخصوصاً في المجال الطبّي والبحثي. باتوا يركّزون أكثر على المساعدات والمنح والمخصّصات الممنوحة لهم من الدولة. هذا ما أدخلهم في صراع مباشر مع الدولة وإداراتها.

رتّبت كلّ هذه التراكمات العديد من المعضلات السياسية. ومنها إشكالية ضعف المؤسّسات السياسية في أدائها مهامّها في تلبية حاجات مواطنيها. فتحت كذلك الأبواب على نماذج جديدة ومتنوّعة في الحياة السياسية الفرنسية تميّزت بضمور الأحزاب الكلاسيكية مع زيادة قلّة حيلتها. حتّم هذا الأمر دخول عصر الضبابية الحاكمة، حيث لا توجد أكثرية ثابتة، بل أقلّية متحكّمة وتحالفات على القطعة. وهو ما يقرّب الإدارة الفرنسية أكثر من جوّ من الرتابة الإنتاجية الدستورية والإدارية التنفيذية.

على الرغم من ذلك، هنالك شعورعميق بضياع الدينامية الثقافية والواقعية الفرنسية نتيجة الشعور بتراجع القوة الفرنسية على الساحة الدولية. تراجعت في السياسة أمام القدرة الأميركية والمشهديّات الروسية. خفتت معنوياً وثقافياً أمام المذهب الأنغلوساكسوني. وعجزت عن مجاراة الألمان والصين اقتصادياً.

إقرأ أيضاً: حكومة فرنسا الجديدة (2/2): هل يُصلح أتال.. ما أفسده ماكرون؟

تسعى الإدارة الفرنسية بقيادة ماكرون، في الجمهورية الخامسة، إلى نسج مسوّدة “إعادة الابتكار” لحضور فرنسا عالمياً. ومن أبرز عناصرها بناء المجتمع وكوادره البشرية الشاملة والمتوازنة. حيث الاختصاصات المهنية والأكاديمية الملائمة لتطوّر المجتمع الفرنسي. وتتركّز المساعي على حماية الطبقة الوسطى وتحصينها ودعم مواردها البشرية. والشروع في التقنينات التشريعية التي تحافظ عليها. إذ تُعتبر هذه الطبقة مهندسة الجمهورية الخامسة اجتماعياً. فمع إراحتها يزاح عبء كبير عن كاهل الجمهورية الخامسة.

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…