تكنوقراط في رام الله.. وواشنطن ترعى “تأهيل” السّلطة

مدة القراءة 6 د

خيّل للمراقب أنّ السلطة الفلسطينية أرادت من خلال تشكيل حكومة جديدة أن تقدّم للرأي العامّ الدولي ما تجيده وما تقوى عليه، فيما مسار غزّة وما بعد غزّة ومصير القضية الفلسطينية برمّتها في مكان آخر. تعجّلت السلطة في توفير بديلها معوّلة عليه خياراً وحيداً أمام المنطقة والعالم للتّأهّل لإدارة قطاع غزّة وإعادته من جديد للولاء للقيادة في “المقاطعة” في رام الله. وكاد لسان حال الفلسطيني يقول: هل فعلاً مشكلة فلسطين هي حكوماتها؟

هل تشكيل الحكومة أفضل السُبل؟

بدا أنّ فكرة تشكيل حكومة جديدة هي أفضل السبل وأقلّها تكلفة على النظام الفلسطيني. نظرت قيادة السلطة بعين القلق إلى حديث واشنطن عن “سلطة متجدّدة”، واحتارت في ما طالب به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته لرام الله أوائل هذا العام من “إجراء إصلاحات موسّعة لهياكل وأجهزة السلطة”. وقيل إنّ ذلك شرط لتمكينها من القيام بمهامّها في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال مرحلة ما بعد الحرب. قيل أيضاً إنّ الإصلاحات، وفق واشنطن، تشمل “تعيين نائب للرئيس، ومنح صلاحيّات أوسع لحكومة جديدة من التكنوقراط لإدارة مرحلة ما بعد الحرب”.

في الأشهر الأخيرة أظهرت الهمهمات الفلسطينية أعراض قلق لدى “المقاطعة” من حديث واشنطن عن إصلاحات فلسطينية. راجت في صحافة الولايات المتحدة تقارير عن صحّة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتقدّمه في السنّ. أفردت بعض الصحف صفحاتها لسرد قصص الشخصيات المرشّحة لخلافة الرجل. سلّطت التقارير مجهراً على ظواهر الفساد والشلليّة والمحسوبيّة. ولم يتسرّب من سطور التقارير أيّ دعم أميركي لواحد من المرشّحين المحتملين.

سمعت قيادة السلطة مصطلح “تكنوقراط” ولم تنصت إلى أمواج من المصطلحات بشأن تغيّر في تركيبة السلطة

تحدّثت بعض التسريبات عن عدم رضى الإدارة الأميركية على اختيار الرئيس الفلسطيني محمد مصطفى لتشكيل الحكومة الجديدة. وأنّها كانت تفضّل رئيس الحكومة الأسبق سلام فياض لهذا الدور. مرّرت واشنطن لعبّاس عدم ودّه لفياض وارتياحه لمصطفى ولم تعارض هذا الخيار ورحّبت بحكومته. فُسّر الأمر بأنّه تعبير عن يأس أميركي من القدرة على العثور على شخصية أفضل، أو أنّ واشنطن تعتبر أنّ مسألة ما بعد غزّة لن تكون مناطة بحكومة هذه السلطة. وأنّ تشكيل حكومة محمد مصطفى هي تقطيع للوقت بانتظار نضوج تقاطع دولي إقليمي لإدارة كلّ الشأن الفلسطيني بعد انتهاء الحرب.

كان يمكن لحكومة محمد اشتيّة أن تبقى وتستمرّ لإدارة مرحلة “تقطيع الوقت” هذه. فحكومة الرجل كما حكومة خلفه تعمل وفق مرسوم صدر عن الرئيس وتنال ثقته وحده في غياب مجلس تشريعي وعملية سياسية مكتملة الأوصاف. كما حال حكومة السلف فإنّ حكومة الخلف تعمل خارج الإجماع الفلسطيني وبعيدة عن الفصائل الفلسطينية حتى تلك المنضوية داخل منظمة التحرير الفلسطينية. ولا طائل من نقاش مسألة الشرعيات منذ أن توقّفت صناديق الاقتراع عن إنتاج برلمان ورئيس للسلطة لإدارة الجسم الفلسطيني عبر الانتخابات.

تشكيك أميركي فرنسي لحكومة مصطفى

كتبت لوموند الفرنسية أنّ الرئيس عباس شكّل شخصيّاً حكومة تروق له وأوكل رئاستها إلى محمد مصطفى. وشكّكت آراء فلسطينية في تكنوقراطية الحكومة الجديدة المؤلّفة من 23 وزيراً. منهم 5 من قطاع غزّة (احتفظ من الحكومة السابقة بوزير الداخلية زياد هب الريح). اعتبروا أنّ غالبيّتهم قريبين من حركة “فتح”، وأنّ خبرات بعض الوزراء لا تتناسب مع الحقائب الموكلة إليهم.

شكّكت آراء فلسطينية في تكنوقراطية الحكومة الجديدة المؤلّفة من 23 وزيراً، منهم 5 من قطاع غزّة

أمّا صحف واشنطن فتشكّك في قدرة الحكومة على مواجهة تحدّيات المرحلة. غير أنّ كلّ ذلك ليس مهمّاً ما دام صاحب السلطة الحقيقي الرئيس محمود عباس محاطاً بعدد من المقرّبين وأصحاب القرار والمصالح، الذين هم أعمدة النظام السياسي الفلسطيني أيّاً كان شكل الحكومات المتعاقبة ووجوهها. بدا أنّ تكنوقراط رام الله في وادٍ بعيد. حتى إنّ بعض أجواء الحكومة تحدّثت عن مشاكل المديونية وغياب إمكانية السداد وضعف الميزانية العامّة وتراجع الموارد وكأنّها تتحدّث عن حكومة اسكندنافية.

تكنوقراط

المناسبة الدراماتيكية التاريخية هي الكارثة التي سبّبتها حرب غزة منذ “طوفان الأقصى”. فيما السلطة وحكومتها الجديدة مستقيلتان من أيّ خطوات سياسية تتعلّق بقطاع غزّة ومستقبله. وما عدا تكرار الرئيس عباس أمام كلّ ضيوفه الأجانب أنّ غزّة جزء من الدولة الفلسطينية رافضاً أيّ إجراء يطال القطاع بمعزل عن الضفة الغربية. بقي التواصل مقطوعاً مع “فصائل غزّة” لتشكيل حاضنة سياسية لـ “الوطن الواحد”.

سمعت قيادة السلطة مصطلح “تكنوقراط” ولم تنصت إلى أمواج من المصطلحات بشأن تغيّر في تركيبة السلطة من رئيسها إلى موظّفيها مروراً بهياكلها الناظمة. دفعت رام الله في حكومتها الجديدة بأسماء ووجوه لا يعرفها جلُّ الفلسطينيين وخارج السياق الفلسطيني وتشكيلاته. وإذا ما سيهتّم تكنوقراط الحكومة، وفق كتاب التكليف، بملفّات الإغاثة والإصلاح وإعادة الإعمار. وبالتالي لن تُحاسب على مهامّ كبرى هي “أكبر بكثير من إمكانيات حكومة تقنيّة”. فإنّ وراء كلّ مهمّة “تقنيّة” جبلاً من الإرادات والقرارات والتحوّلات السياسية التي يمسك الرئيس الفلسطيني وحده بمفاتيحها.

لا تعوّل واشنطن على حكومة مصطفى لإعداد السلطة لتولّي الدور الكبير في غزّة. وفيما سيكون على الحكومة الجديدة فتح الملفّات “الممكنة”، تمارس الولايات المتحدة ضغوطها لـ “تصويب” أداء وسلوك السلطة وإصلاح هياكلها وتأهيلها. يشمل ذلك ما قيل إنّه اتفاق بين واشنطن ورام الله بشأن مسألة “مخصّصات الشهداء”. ومع ذلك وجب ملاحظة أنّ مستقبل قطاع غزّة ومصير حركتَي حماس والجهاد أمور يتمّ الجدل فيها بعيداً عن سلطة رام الله.

خيّل للمراقب أنّ السلطة الفلسطينية أرادت أن تقدّم للرأي العامّ الدولي ما تجيده وما تقوى عليه

تنظّم القاهرة والدوحة مفاوضات الحرب وتوقّفها. وتستضيف طهران إسماعيل هنيّة وصحبه الباحثين عن ملاذات “حماس” و”الجهاد” وخياراتهما المقبلة. ويتقرّر في واشنطن المتاح والممنوع في خرائط غزة المقبلة ووجهة الهمم الدولية التي تطالب بدولة فلسطينية. وتلمّح إلى إمكان الاعتراف بها وشروطه.

إقرأ أيضاً: الدولة الفلسطينيّة.. لماذا يرفضونها؟

بموازاة ذلك تتدافع التقارير حول ميناء غزّة العائم ومقاصده، وعلاقة “الحلّ النهائي” لقطاع غزّة بمخزونات الغاز في بحره، وارتباطها بشبكات الإنتاج والتوزيع في شرق البحر المتوسّط.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…