تستفيق عواصم العالم على مطلب قيام الدولة الفلسطينيّة وكأنّها كشف جديد لا سابق له. الأمر يثير أسئلة بشأن ما وراء تقاطع الدول الكبرى للدفع بهذا الهدف. تتحدّث المعلومات عن “تسونامي” من هذه الدول باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة. ومع ذلك فإنّ شكوكاً تعتري المنطقة بشأن جديّة هذا التحوّل. فيما يعتبر خبراء أنّ “طوفان الأقصى” يدفع النظام الدولي باتجاه تحوّلات في هذا الصدد باتت ضرورة لا ترفاً فقط.
الجدير بالملاحظة أنّ إسرائيل ليست وحدها من وضع العراقيل وراكم السدود لوأد فكرة قيام الدولة الفلسطينيّة. عملت حكومات تل أبيب جميعها خلال العقود الأخيرة، بالقول والعمل، على رفض قيام الدولة العتيدة. أو فرض “أمر واقع” ميداني لجعلها مستحيلة. غير أنّها نهلت في مناوراتها وتعنّتها والرفض الكامل لفكرة “الدولة الفلسطينيّة” من بيئة دولية حاضنة متفهّمة. وبعضها داعم بحيوية وقناعة للرؤية الإسرائيلية التي تجد في أيّ “دولة” للشعب الفلسطيني نقيضاً للرواية الإسرائيلية ونيلاً من مناعتها.
تقوم الرواية الإسرائيلية منذ أصولها الصهيونية الأولى على امتلاك اليهود حقّاً تاريخياً توراتيّاً في العودة إلى “أرض الميعاد”. تقوم أيضاً على عدم الاعتراف بالتاريخ خلال 3 آلاف سنة واعتبار حكاية فلسطين مزوّرة ملفّقة أو هي مرحلة عرضية مؤقّتة بانتظار تلك “العودة”. ولطالما برعت الدعوة الصهيونية في التبشير بوطن في “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. حتى انتهت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير إلى التفتّق بمقولتها الشهيرة في مقابلة لها مع الصاندي تايمز في حزيران 1965 إنّه “لم يكن هناك شيء اسمه الفلسطينيون”.
لم تقُمْ الدولة الفلسطينيّة لأنّ المجتمع الدولي لم يجد أنّ في الأمر مصلحة ملحّة أو منفعة مفصليّة
وفق هذا الشعور الجمعي الذي استوطن العقل اليهودي وامتدادات نفوذه في العالم (وليس الإسرائيلي فقط) رُفض منطق الكينونة الفلسطينية. أُهمل الاعتراف بهويّة البلاد الأصلية لأنّها تفخّخ كلّ السردية التي قادت إلى قيام دولة إسرائيل. وكان واضحاً أنّ إسرائيل تتوق للاندماج في الشرق الأوسط بصفتها وجوداً “طبيعياً” متفاعلاً مع الهويّة العربية للمنطقة كأمر تاريخي ثقافي جغرافي من دون الإقرار بأصل فلسطيني لفلسطين. بالمقابل لم تجرؤ أدبيّاتها على المسّ بثوابت الهويّة في العالم العربي على الرغم من شطط أيديولوجيّات تحدّثت عن أنّ لليهود حقوقاً داخل بلدان المنطقة من مغربها إلى مشرقها.
إسرائيل ليست وحيدة في منع قيام دولة فلسطينية
لم تقُمْ الدولة الفلسطينيّة لأنّ المجتمع الدولي (الغربي نعم، لكنّ دولاً أخرى كبيرة مثل الصين وروسيا أيضاً) لم يجد أنّ في الأمر مصلحة ملحّة أو منفعة مفصليّة. حتى لا نقول إنّ في الأمر تصحيحاً نسبياً لعدالة مفقودة. وفيما تروَّج هذه الأيام داخل العواصم الغربية، وخصوصاً في واشنطن نفسها، تقليعة التلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، غير أنّ في هذا الضجيج خواء لم يرقَ إلى مستوى أن تقوم تلك العواصم بخطوات قانونية واضحة تعترف بتلك الدولة. فإذا ما كرّت سبحة المعترفين بـ “الدولة”… فإنّ ذلك يفعّل مساراً باتجاه فرض أمر واقع دولي جامع على الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل، مجتمعاً وأحزاباً وحكومة وبرلماناً، لرفض شامل لبزوغ أيّ أمل لقيام تلك الدولة.
تتحدّث المعلومات عن “تسونامي” باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة. ومع ذلك فإنّ شكوكاً تعتري المنطقة بشأن جديّة هذا التحوّل
إذا لم يصدر عن باريس وبرلين ولندن وواشنطن، كما من بكين وموسكو وغيرهما، إرادات صلبة للانتقال إلى زمن “الدولة”، فلا شيء في إسرائيل سيتغيّر ويقلب مساراً معاكساً سيصعب تغيير وجهته بعد “طوفان الأقصى”. ولن تشعر إسرائيل بأيّ حاجة لتسوية سياسية تاريخية مع الفلسطينيين من دون أيّ “زلزال” دولي بهذا الاتجاه. وقد تقوم بعض الدول، ومنها الكبرى، بخطوات جدّية بهذا الاتجاه. إلا أنّ ذلك، وإن يزعج أصحاب القرار في إسرائيل، فسيبقى غير جدير بالقلق. وذلك ما دامت الولايات المتحدة غير واضحة في هذا الصدد وتستخدم تعابير ضبابية وتبرع في إنتاج المفردات التي تُغرق احتمال الدولة بخزّان من الفتاوى والشروط والقواعد والاجتهادات.
أميركا “الصهيونية”.. بايدن الإسرائيلي
في تشرين الأول الماضي كرّر الرئيس الأميركي جو بايدن ما قاله عام 1986 من أنّه “لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على أميركا خلق إسرائيل”. كرّر الرجل أيضاً مقولته الشهيرة “أنا صهيوني”.
وفق تلك الثوابت لم تبشّر الولايات المتحدة بـ”الدولة الفلسطينيّة”. حين أثار بايدن الأمر تناول فرضيّات قيام “شكل من أشكال دولة” فلسطينية. أراد رجل البيت الأبيض اقتراح “دولة” تُعمل فيها إسرائيل مبضعها وتنسف ما اعتُمد من قرارات دولية ومن مبادرة عربية للسلام. وكذلك ممّا يتوق إليه الفلسطينيون في وثائقهم خلال العقود الأخيرة لإقامة دولة على 22 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية. على أن تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون القدس الشرقية عاصمة لها.
وإذا ما كانت في تلميحات بايدن إيحاءات جديدة، فقد رفضتها إسرائيل مجتمعة. وهو ما يطمئن الإسرائيليين إلى بلادةٍ في “عقيدة بايدن” لا تختلف عن عقيدة الرئيس السابق دونالد ترامب و”صفقة القرن” التي قدّم صهره ومستشاره جاريد كوشنر خرائطها.
لم تبشّر الولايات المتحدة بـ”الدولة الفلسطينيّة”. حين أثار بايدن الأمر تناول فرضيّات قيام “شكل من أشكال دولة” فلسطينية
بالمقابل كان لافتاً الموقف الذي عبّر عنه وزير خارجية المملكة المتحدة ديفيد كاميرون في أواخر كانون الثاني الماضي. إذ أعلن، على نحو مفاجئ، أنّ بلاده تدرس الاعتراف بـ”الدولة الفلسطينيّة”. حتى قبل انتهاء مسار التفاوض ومراحله. ومن يعرف العلاقة التاريخية والاستراتيجية الحميمة بين بريطانيا والولايات المتحدة وتقيُّد لندن الدقيق بالسياسة الخارجية لواشنطن، يستنتج أنّه لا يمكن أن “يرتكب” كاميرون كلمات من هذا النوع دون أن يكون في الأمر وحيٌ أميركي المصدر.
لم تطُل الحيرة كثيراً. فبعد ساعات من “فتوى” لندن، صدر عن وزارة الخارجية الأميركية بيان يعلن أنّ واشنطن تدرس بدورها مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة. ثمّ كرّت سبحة عواصم غربية أخرى تنطق بالمحظور بصيغ ولهجات مختلفة في مقاصدها ومتباينة في مآلاتها. فرنسا مثلاً تحدّثت عن اعتراف شرط أن يكون ثمرة لمفاوضات وليس قبلها.
الدولة…. مصلحة للعالم واستقراره
الواقع أنّ في التطوّر الدولي باتجاه قيام “دولة فلسطينية” ما، هو حقيقي، لكن لا يعبّر بالضرورة فقط عن نضج أخلاقي ينصف الفلسطينيين بدولة وهويّة قانونية تجعلهم أمّة كاملة العضوية في المحفل الأممي. .. بل يكشف عن وعي لضرورة قيام هذه الدولة الفلسطينيّة لأنّها باتت مصلحة للعالم ولبديهيّات أمنه واستقراره.
صحيح أنّ تلك الدعوات قد تكون تكتيكية تمثّل الوجه الآخر للعملة الأميركية. لكنّ جانباً من المواقف الدبلوماسية الغربية، الأوروبية خصوصاً (إسبانيا، إيرلندا، بلجيكا مثالاً)، تمارس هذا التمرين لأسباب ودوافع ذاتية. وللمفارقة لا تهدف هذه المواقف إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل. لانعدام وجود تأثير لها على قرار تل أبيب. بل لخلق بيئة دولية متعدّدة واسعة بإمكانها أن تضغط على الولايات المتحدة والتأثير على جمود واشنطن في هذا الصدد.
الدولة الفلسطينيّة هي قرار دولي يعترف بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم. ولا يمكن لتلك الدولة أن تقوم من خلال تلميحات دولية أو اقتراحات تحفظ ماء الوجه
بكلمة أخرى، الدولة الفلسطينيّة هي قرار دولي يعترف بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم. ولا يمكن لتلك الدولة أن تقوم من خلال تلميحات دولية أو اقتراحات تحفظ ماء الوجه ويسهل رفضها من قبل حكومة إسرائيل. سواء رأسَها بنيامين نتنياهو أو غيره. وقد أحسنت السلطة الفلسطينية القول إنّ هذه الدولة لا تحتاج إلى أخذ رخصة قيامها من نتنياهو وحكومته. وفيما يعلو الضجيج حول الدولة ويخفت، فإنّ نيران غزّة تجعل من الأمر ترفاً مقارنة بهول الكارثة.
العودة إلى مبادرة السعودية في 2002
مع ذلك وجب التوقّف عند تحوّلات لافتة وجبت مراقبتها. يتحدّث وزير الخارجية أنتوني بلينكن عن عمل بلاده على خطة لإقامة الدولة الفلسطينيّة وإدماج إسرائيل في المنطقة. بمعنى آخر باتت ثنائية الأهداف متكاملة وليست متناقضة وفق مفاهيم إسرائيل القديمة-الجديدة. وما يعتبره بلينكن وصحبه اختراعاً سبق أن اقترحته مبادرة العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002 التي تحوّلت إلى مبادرة عربية للسلام أقرّتها قمّة عربية في بيروت في العام نفسه.
يرفد الكنيست الإسرائيلي نتنياهو بتصويت يرفض اعتراف العالم بالدولة الفلسطينيّة.
وإذا كان ما يصدر عن باريس وبرلين ولندن ودول غربية أخرى ما يفيد أنّ “ما بعد غزّة” هو قيام دولة فلسطينية.
وإذا أضفنا إليه ما يكشفه مصدر دبلوماسي عن أنّ 4 دول دائمة العضوية في مجلس الأمن مستعدّة للاعتراف بالدولة الفلسطينيّة…
إقرأ أيضاً: صفقة غزة: الميزات والصعوبات
فإنّ الأمر يعبّر عن منحى يجب الدفع به فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، كما من “دول الجنوب”، ليصبح من المسلّمات التي لطالما لم يُعترف بمكانتها في العقود الأخيرة. ومع ذلك، لا ثقة كبيرة بتحوّلات الغرب ما دامت خياراته تنهل ديناميّاتها من منطق عقائد إسرائيل وأبعادها الدينية التي تجد لها في العواصم الكبرى مؤمنين ومريدين.
لمتابعة الكاتب على X: