قبل 4 سنوات، في أيّار 2020، وزّع الإعلام الإيراني صوراً لقادة محور إيران، بينهم الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصر الله. والرئيس السوري بشار الأسد. وزعيم جماعة أنصار الله في اليمن عبد الملك الحوثي. وقائد فيلق القدس الإيراني الجنرال الإيراني قاسم سليماني وغيرهم… يصلّون في القدس. وكانت تلك الصورة ذروة الحملة الإعلامية بعنوان “سنصلّي في القدس“. حملة تَعِد بـ”إزالة إسرائيل”… وكانت نتيجتُها “إزالة غزّة”.
في الأسبوع نفسه من أيّار، حين أطلق محور إيران حملة “الصلاة في القدس”، طبعاً بعد “إزالة إسرائيل”، خطب الأمين العامّ للحزب معلناً: “المقاومة تمهّد كلّ الأرضية لليوم الذي سيأتي حتماً ونصلّي فيه جميعاً في القدس”. وذلك في كلمته السنوية لمناسبة يوم القدس العالمي. ذلك اليوم الذي ابتدعته إيران في يوم الجمعة الأخير من كلّ شهر رمضان.
كانت تلك الحملة واحدة من نتائج نظريّة أطلقها هذا المحور، أقرب إلى وعدٍ عنوانه: “إزالة إسرائيل” من الوجود. حملة بدأت في عام 2017 على لسان المستشار العسكري لقائد فيلق القدس الإيراني، العميد أحمد كريم بور.
يومها أعلن أنّ “إيران جاهزة للردّ بحزم على التهديدات الإسرائيلية… وجميع المراكز المهمّة في الكيان الصهيوني قد جرى تحديدها وسيتمّ تدميرها بصواريخ بعيدة المدى في غضون 7 دقائق و30 ثانية، في حال تعرّضت إيران لأيّ اعتداء”.
قبلها في 2015 كان المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي الخامنئي، قد أعلن في أيلول 2015، أنّه “لن يكون هناك وجود لإسرائيل بعد 25 عاماً”. أي في عام 2040. ويبقى أمامنا 15 عاماً من اليوم قبل تحقيق هذا الوعد.
من “إنهاء الاحتلال”… إلى “وقف إطلاق النار”
ظلّ وعد “إزالة إسرائيل” في إطار “الممكن” بالنسبة لجمهور هذا المحور. في حين كان بمنزلة دعابة تناولها خصوم هذا المحور. لكن لم تخضع هذه النظرية لاختبار على أرض الواقع. إذ لم تَخُض إيران حرباً مع إسرائيل. ولم تكن حرب غزّة تلوح في الأفق.
ظلّ وعد “إزالة إسرائيل” في إطار “الممكن” بالنسبة لجمهور محور إيران. في حين كان بمنزلة دعابة تناولها خصوم هذا المحور
هذا على الرغم من أنّ إسرائيل نفّذت عدداً من العمليات الأمنيّة داخل الأراضي الإيرانية. أهمّها سرقة الأرشيف النووي الإيراني. كما اغتالت قادة في البرنامج النووي وعسكريّين… حتّى إنّها أعلنت اعتقال إيراني و”استجوابه داخل الأراضي الإيرانية” قبل أشهر.
كلّ هذا و”المحور” لا ينفّذ تهديده بـ”إزالة إسرائيل”. إلى أن حانت اللحظة التي كان ينتظرها الجمهور. وكان “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023). أعلنت “حماس” بدء العملية في غزّة، في بيان بصوت محمد الضيف، قائد الأركان في كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري للحركة.
جاء في البيان رقم 1: “نعلن بدء عملية طوفان الأقصى بضربة أولى استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية للعدوّ. هذه الضربة الأولى تجاوزت 5 آلاف صاروخ وقذيفة خلال أوّل 20 دقيقة من العملية”. وأضاف: “اليوم هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء الاحتلال الأخير على سطح الأرض”.
لكن في بياناتها الأخيرة، التي نختار منها ما صدر في 6 آذار، انتهت “حماس” إلى إبداء “المرونة المطلوبة بهدف الوصول إلى اتفاق يقضي بوقف شامل للعدوان على شعبنا”. ولامت “الاحتلال” لأنّه “لا يزال يتهرّب من استحقاقات هذا الاتفاق. وخاصّة ما يحقّق الوقف الدائم لإطلاق النار وعودة النازحين والانسحاب من القطاع وتوفير احتياجات شعبنا”.
هكذا بين 7 تشرين الأوّل و6 آذار خمسة أشهر كانت كافية لنقل الحركة من مطلب “إنهاء الاحتلال الأخير على سطح الأرض”. إلى مطالبة إسرائيل بعدم التهرّب من “الوقف الدائم لإطلاق النار وعودة النازحين والانسحاب من القطاع وتوفير احتياجات شعبنا”.
بات الحدّ الأقصى للحلم “الحمساويّ” هو العودة إلى 6 أكتوبر. ولم نعد نسمع عن “إزالة إسرائيل”.
إسرائيل نفّذت عدداً من العمليات الأمنيّة داخل الأراضي الإيرانية. أهمّها سرقة الأرشيف النووي الإيراني
ماذا عن إزالة إسرائيل؟
في هذه الأثناء، وبدل أن تنضمّ بقيّة “جيوش” إيران في الإقليم إلى هذه المعركة في غزّة، خرجت “سوريا الأسد” من المشهد. نأى النظام السوري بنفسه. وبعد ضربات من ميليشيات عراقية تابعة لإيران ضدّ قواعد أميركية، وحين استنفر الجيش الأميركي للردّ. أعلنت “كتائب حزب الله العراقية” المسلّحة “تعليق عملياتها العسكرية والأمنيّة ضدّ القوات الأميركية بهدف منع أيّ إحراج للحكومة العراقية”. في ما يشبه الاستسلام الاستباقي. كان ذلك في 30 كانون الثاني. أي أنّ العراق خرج من المشهد، مثل سوريا، قبل 3 أشهر.
في حين اقتصرت مشاركة الحزب على “إسناد غزّة” وما سمّاه حرب المشاغلة. تخلّى الحزب عن وعود “دخول الجليل” التي أطلقها الأمين العامّ للحزب في كانون الثاني 2019. وعود أتبعها الحزب بتدريبات تحاكي “اقتحام الجليل” في أيّار الماضي، قبل أشهر من “طوفان الأقصى”.
أمّا الحوثيون في اليمن، فقد اكتفوا بـ”مشاغلة” الملاحة في البحر الأحمر. واقتصرت مشاركتهم العسكرية على بضع رشقات باتجاه إيلات، بصواريخ ومسيّرات لم تغيّر شيئاً في المعادلة العسكرية. لكنّها عطّلت الملاحة جزئياً في البحر الأحمر، دون تأثير يُذكَر على مجريات الحرب في غزّة.
بات الحدّ الأقصى للحلم “الحمساويّ” هو العودة إلى 6 أكتوبر. ولم نعد نسمع عن “إزالة إسرائيل”
إذاً، حتّى 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، كانت “حكاية” المحور عن “إزالة إسرائيل” وعن الـ”سبع دقائق ونصف” احتمالاً ممكناً. في نظر جمهور هذا المحور، وفي أنظار المستمعين والمشاهدين، وإن كانوا متشكّكين.
“إزالة غزّة”… في الوعي الجمعيّ
جاء 7 أكتوبر ليتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذه الحكاية. أو لنقل: صاحَ الديك. وطلع الفجر. وكانت الفرصة الذهبية. وتبيّن أنّ إيران، وجيوشها، تتمتّع بميزة لم تكن واضحة قبل ذلك الطوفان في غزّة، وهي “الحكمة”. وما أدراك ما الحكمة.
هكذا تراجع “المحور” عن التهديد بـ”إزالة إسرائيل”. وباتت الميليشيات الإيرانية في العراق حكيمةً إلى درجة “عدم إحراج حكومة العراق”. والحزب يفاوض من أجل تنفيذ القرار 1701 في جنوب لبنان. وسوريا الأسد خارج المشهد.
أمّا إيران فأوفدت قائد “فيلق القدس”، أي الفيلق الموكلة إليه مهمّة تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل، إلى الأمين العامّ للحزب في شباط الماضي. وسرّبت مصادرها عبر وكالة “رويترز” قبل أسبوع، أنّ “نصر الله طمأن قاآني إلى أنّه لا يريد أن تنجرّ إيران إلى حرب مع إسرائيل أو الولايات المتحدة وأنّ الحزب سيقاتل بمفرده”.
إيران نفسها تفاوض أميركا طمعاً في ثمنٍ لـ”حكمتها” العابرة للدول والميليشيات والجيوش.
فهل نحن في صدد نهاية خطاب “إزالة إسرائيل”، ونهاية وعود “الصلاة في القدس”، بعدما تُرِكَت غزّة وحيدةً، وبعد تدميرها كلّها تقريباً؟
إقرأ أيضاً: عرفات وصدّام وآخرون: أضواء القدس… أو الشهادة؟
الأرجح أنّ الوعي الجمعيّ سيضع “إزالة غزّة”، في مكان وعود “إزالة إسرائيل”.
وهذا دأب وعود تحرير فلسطين، التي لم تتوقّف، منذ 76 عاماً، عن تدمير الدول العربية.
لمتابعة الكاتب على X: