عرفات وصدّام وآخرون: أضواء القدس… أو الشهادة؟

مدة القراءة 5 د

كانت شيّقة المقابلة التي أجراها الأستاذ غسان شربل مع القيادي الفلسطيني التاريخي، ياسر عبد ربّه. أبرز ما فيها ما كشفه في حديثه لجريدة “الشرق الأوسط” عن زعيمين عربيين كبيرين. جمعتهما لحظة تاريخية لا نزال نعيش لحظاتٍ مشابهة لها. حين قال صدّام حسين لياسر عرفات: “إنّي أرى أضواء القدس كما أرى أضواء بغداد الآن أمامي”. سخرية القدر وقسوة التاريخ أنّ الإثنين انتهى بهما الأمر بحكم إعدام وقّعته أميركا. لأنّ كلّاً منهما لم يقرأ لحظته جيّداً، وأخطأ في قراءة “التاريخ”.

 

يروي القيادي الفلسطيني ياسر عبد ربّه كيف تفاعل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والرئيس العراقي صدّام حسين، مع حدثين تاريخيين. هما الغزو العراقي للكويت في 1990، والهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول 2001:

– في 1990 وقف عرفات إلى جانب صدّام. في الميزان فضّل صدّام على الكويت: “”بالتأكيد أخطأ”، يقول عبد ربّه في حديثه لجريدة “الشرق الأوسط”.

– بعد 11 أيلول 2001، أيّام الانتفاضة الثانية (بدأت في أيلول 2000)، لم ينتبه عرفات إلى حجم التغيير في العالم. حاول أن يستفيد من عمليات حركة “حماس” الفدائية، في مفاوضاته مع إسرائيل وأميركا. وبعد السفينة الإيرانية “كارين إيه” المحمّلة بالأسلحة (2002)، التي كانت متوجّهة إلى فلسطين قادمة من إيران، قاطعه الأميركيون. ورفض الرئيس جورج بوش مصافحته في مقرّ الأمم المتحدة. وبدأت رحلة عزله ثم قتله.

“نكبة العراق” التي رآها عرفات في 1990

أمّا صدّام حسين فقد أخطأ بالطبع حين غزا الكويت. عرفات، خلال لقاء معه بعد الغزو حضره عبد ربّه، “بأمانة طلب منه بوضوح وناشده أن ينسحب”. وقال له: “لا نريد نكبة أخرى في العراق”. وكرّرها أمام الملك الأردني حسين بن طلال، ونائب رئيس اليمن علي سالم البيض.

ليس سهلاً أن تكون ياسر عرفات في حضرة صدّام حسين. وأن تقول له: “انسحب من الكويت”

المفاجىء كان أنّ طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية حينها، فقد اعترض على كلام أبو عمّار خلال الاجتماع الرباعي. لكن بعد الاجتماع ذهب إلى عبد ربّه وقال له: “أرجوك أن تجعل أبو عمار يؤكد على الكلام الذي قاله في الاجتماع حول القدس وحول العراق والنكبة. لا نريد نكبة اسمها نكبة العراق”.

قبل 13 عاماً من الغزو الأميركي للعراق، رأى عرفات “نكبة العراق”. وحذّر صدّام حسين منها. فكيف ردّ الرئيس العراقي: “أمسكه من يده ووقفنا على باب الفيلا وأمامنا كانت بغداد في الليل، فقال له: يا أبو عمار. إنّي أرى أضواء القدس كما أرى أضواء بغداد الآن أمامي”.

العجز عن قراءة “الحاضر”… وقسوة التاريخ

ليس سهلاً أن تكون ياسر عرفات في حضرة صدّام حسين. وأن تقول له: “انسحب من الكويت”. وليس سهلاً أن تحذّره من “نكبة العراق” أمام ملك الأردن ونائب رئيس اليمن وأمام وزرائه ومساعديه.

حين عجز صدّام حسين عن قراءة التطوّرات السياسية بعد غزو الكويت، جاءته “عاصفة الصحراء” التي انضمّ إليها عربٌ كثيرون. وجرفت الجيش العراقي والعراق وأهل العراق إلى مصير انتهى بهم في 2003 تحت الاحتلال الأميركي والبريطاني. وانتهى بصدّام وحبل المشنقة الأميركي حول رقبته.

وحين عجز ياسر عرفات عن قراءة التطوّرات السياسية في المنطقة بعد 11 أيلول 2001، هزمه آرييل شارون بأن حرّض الإدارة الأميركية عليه. وربما حصل على ضوء أخضر لقتله.

عرفات

يروي عبد ربّه: كان تصريح جورج بوش الشهير بأن “الشعب الفلسطيني يستحق ما هو أفضل من هذه القيادة الفلسطينية، وهي متورطة في الإرهاب”. بعدها طرحوا فكرة أن عرفات يمكن أن يظل رمزاً، ولكن من دون صلاحيات تنفيذية واسعة. وأن تُحال هذه الصلاحيات التنفيذية إلى رئيس وزراء كان الأميركيون قد حددوه سلفاً وهو الأخ محمود عباس “أبو مازن”.

اليوم هناك زعماء، محليّون في بلادهم، يظنّون أنّهم يرون أضواء القدس. وهم أقوياء. تحت أيديهم جيوش ومقاتلون وصواريخ

أضواء القدس… أو القبر؟

هكذا اتُّخِذ قرار “إنهاء” عرفات، لأنّ شارون ألبسه ثياب “دعم الإرهاب”. واتُخِذ قرار إنهاء صدّام لأنّ بوش ألبسه ثياب الإرهاب كذلك. بفارق أشهر فقط. وكان المستفيد الأوّل هو إسرائيل، التي فازت بشطب العراق وجيشه من المعادلة. وكذلك شطبت الزعيم التاريخي لفلسطين، صاحب شرعية النضال وتأسيس الدولة.

كأنّها كانت أضواء النهاية. ذلك الضوء في نهاية نفق الحياة.

في استعادة سينمائية لتلك اللحظة، يمكن القول إنّ ياسر عرفات وصدّام حسين كانا يتشاركان في التوافق على الانتحار. كلٌّ على طريقته. وكان ذلك الضوء الذي تبدّى لهما فوق أضواء بغداد، هو السبب في عدم قدرتهما على “الرؤية”.

وسرعان ما سيقول التاريخ كلمته. بفارق أشهر قليلة بين الإثنين. صدّام في 2003، حين سقطت بغداد تحت هدير طائرات المحافظين الجدد الحربية. انتهى يومها صدّام حسين، قبل سنوات من إعدامه في 2006. وياسر عرفات في 2004. حين تملّكت منه سموم السياسة والاغتيال… والشهادة.

في 1990 كانا زعيمين كبيرين. وفي 2003 كانا لا يزالان كبيرين. بحجم التاريخ. وكلمة التاريخ تكون دائماً قاسية.

إقرأ أيضاً: جنوب لبنان ضحية هوكستين: إسرائيل تستخرج نفط الـ1430 كلم

اليوم هناك زعماء، محليّون في بلادهم، يظنّون أنّهم يرون أضواء القدس. وهم أقوياء. تحت أيديهم جيوش ومقاتلون وصواريخ. وبكلمة منهم يشعلون بلاداً ويغيّرون خرائط. تماماً كمان كان يفعل صدّام وعرفات: من بيروت إلى الأردن وفلسطين والعراق والكويت وإيران… وغيرها.

لكنّه من الصعب أن تعرف أيّ أضواء هي: أضواء القدس… أو الشهادة؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

 mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…