استفادت أميركا وهي تتوغّل وتتمركز في منطقة الشرق الأوسط من حالة التشرذم والتفكّك بين دول المنطقة، وضعف النفوذ الروسي، وحاجة الأوروبيين إليها، وانشغال الصين بإعادة ترتيب شؤون بيتها. لكنّها اليوم تعاني من حرب غير معلنة تهدّد مصالحها ونفوذها في الإقليم، وتسقط ورقة جاذبية المنوّم التي كانت تحرّكها للتفرّد بتوزيع الأدوار والمهامّ.
كيف ستتعامل الإدارة الأميركية مع المتغيّرات الإقليمية الحاصلة؟ وهل تتمكّن من حماية مصالحها ونفوذها وإبقاء البعض إلى جانبها؟
تستعدّ دول المنطقة لوضع سياسي وأمنيّ إقليمي صعب فرضته التطوّرات الأخيرة على أكثر من ساحة وجبهة بعد انفجار الوضع في قطاع غزة قبل 6 أشهر. تل أبيب هي التي تصعّد وتواصل استهداف المدنيين ومحاصرتهم وتجويعهم. لكنّ الشريك الأميركي يتحمّل مسؤولية كبيرة في نظر دول المنطقة وشعوبها بسبب الدعم العسكري والسياسي الواسع لإسرائيل كي تتمكّن من مواصلة حربها ضدّ مئات آلاف المدنيين في غزة.
لا نتائج أميركية مرضية
لم تؤدِّ محاولات البيت الأبيض الأخيرة بناء “الجسر الإنساني” باتجاه غزة أو التصعيد مع جماعات الحوثي في البحر الأحمر تحت عنوان حماية الملاحة الدولية أو تكرار مواقف سياسية لم تترجم عملياً على الأرض منذ عقود حول دعم حلّ الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى أيّة نتيجة مرضية لدول المنطقة وشعوبها حتى الآن.
ارتدادات ما يجري في غزة. وما تبعه حتى اليوم من سقوط ضحايا بشرية بالآلاف وانفجار كوارث اجتماعية وإنسانية بعيدة المدى، تُظهر أميركا بين أبرز الخاسرين الذين سيتحمّلون أعباء وارتدادات ما يحدث هناك، وانعكاسات ذلك عليها في الداخل والخارج عند انتهاء مفعول المنوّم الإقليمي الذي كانت تلجأ إليه في أغلب الأحيان.
كما أنّ فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرّة الخامسة في انتخابات الرئاسة، وما تقوله نسب المشاركة والدعم له،يذهبان باتجاه تذكير أميركا بالبحث عن سيناريوهات بديلة لتجييش الحلفاء والشركاء الذين لم يعودوا يصغون إلى ما تقوله حول مخاطر السياسة الروسيّة في الإقليم، والدعوة إلى دعم خططها في تضييق الخناق على بوتين تمهيداً لإزاحته عبر لعب ورقة الداخل الروسي وتحريضه ضدّ قياداته.
تحاول أميركا الاستفادة من اشتعال جبهات قديمة بعد انفجار الوضع في غزة. وتريد البناء من جديد فوق هذه الفرص مستغلّة ساحة جنوب لبنان
ينطبق الوضع أيضاً على الصعوبات الإضافية التي تواجهها واشنطن على خطّ الصعود الإقليمي الصيني والهندي، واللغة والأسلوب الجديدين اللذين يعتمدانهما في عمليات الاختراق والتوغّل، وحرب المواقع التي ستتطلّب المزيد من الجهد السياسي والاقتصادي. وهو ما لم تعد أميركا تملكه بالمقارنة مع وضعية الخمسينيات والستّينيات والتفرّد بالقيادة العالمية لعقد كامل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. هذا دون أن نغفل صعود اللاعبين الإقليميّين العربي والتركي الإيراني، ودخولهم ساحات المنافسة الاستراتيجية في أكثر من مكان.
الرهان على الجبهات القديمة
تحاول أميركا الاستفادة من اشتعال جبهات قديمة بعد انفجار الوضع في غزة. وتريد البناء من جديد فوق هذه الفرص مستغلّة ساحة جنوب لبنان والتصعيد التركي – الإيراني والإيراني- العربي المحتمل في سوريا والعراق والخليج. لكن ما ينتظرها هو ضرورة التعامل مع الواقع الجديد ومع أسئلة تنتظر أجوبة عليها: كيف وصلت أميركا إلى ما هي عليه اليوم؟ وهل يكون بمقدورها الخروج من هذه الوضعية؟ وما هي الوسائل التي ستلجأ إليها من أجل ذلك؟ وأين تجد أميركا نفسها بعد عقد وسط هذه المتغيّرات والمعادلات الجديدة؟
قبل البحث عن أسباب ما يحيط بأميركا في المنطقة، وكيف تشكّلت حلبة الصراعات المحيطة بها ووصلت الأمور إلى ما هي عليه. لا بدّ من طرح سؤال آخر أهمّ ينتظر التوضيح: كيف تنظر أميركا إلى نفسها اليوم؟ وهل بمقدورها المواجهة لحماية مصالحها في الخارج من خلال المنافسة السياسية والعسكرية والاقتصادية؟ وهل ما بقي لها من تحالفات سيمكّنها من المنازلة؟
باختصار، يُبرز المشهد الإقليمي والدولي اللاعب الصيني وهو يدخل على خطّ الوساطة بين الرياض وطهران. والهند وهي تفعّل مشروعها التجاري العابر للقارّات بالتفاهم المباشر مع دول المنطقة. وروسيا وهي تسحب من يد واشنطن أوراق البلقان والقوقاز والبحر الأسود. وأوروبا التي تلتزم قرارات جبهة القرم في أوكرانيا منذ عامين، لكنّها ترفع أكثر فأكثر صوت التمرّد والمطالبة بالبحث عن البدائل السياسية الدبلوماسية،، بعدما ذكر بوتين أنّ السلاح النووي والحرب العالمية الثالثة ليسا خياراً مستبعداً بالنسبة له.
كشفت صحيفة “إسرائيل اليوم” عن وصول نحو 35 ألف طن من الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل منذ اندلاع القتال في قطاع غزة
إسرائيل معضلة أميركية
المعضلة الأخرى التي تنتظر الإدارة الأميركية هي طريقة موازنة علاقتها الكلاسيكية والتزامها بالأمن القومي لإسرائيل مع متغيّرات نظرة الداخل الأميركي إلى ما ترتكبه تل أبيب من مجازر وما تتسبّب به من أزمات معيشية وإنسانية للمدنيين الفلسطينيين هناك.
خطوات إيصال المساعدات الأميركية جوّاً إلى غزة أو بناء رصيف عائم لتوفير الدعم عبر البحر، لن يبدّلا كثيراً في الصورة المرسومة في ذهن الرأي العامّ الفلسطيني والعربي والعالمي. ومسؤولية واشنطن كشريك استراتيجي لتل أبيب في قدرتها الفعليّة على إنهاء ما تفعله إسرائيل هناك لو أرادت ذلك. الثمن الذي ستدفعه أميركا لن يكون في غزة أو في الملفّ الفلسطيني فقط، بل في تعريض مصالحها وتحالفاتها الإقليمية بمجملها للخطر.
لقد كشفت صحيفة “إسرائيل اليوم” عن وصول نحو 35 ألف طن من الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل منذ اندلاع القتال في قطاع غزة. المورّد الرئيسي هو الولايات المتحدة الأميركية. دون رؤية أميركية جديدة مغايرة تخرجها من تحت العباءة الإسرائيلية، وتنهي تمسّكها بضرورة التفوّق العسكري والأمني لتل أبيب في الإقليم، ستظلّ هي تحت تأثير التنويم المغنطيسي الإسرائيلي.
ربّما لم يعد العديد من دول المنطقة يشكّل تهديداً لأمن إسرائيل. لكنّ هذه الدول نفسها لا تريد ربط أمنها بأمن إسرائيل أوّلاً، ثمّ البقاء تحت المظلّة الأمنيّة الأميركية ثانياً. أميركا تنتقل من مقعد القيادة إلى المقعد الخلفيّ في المنطقة رويداً رويداً، ويبدو أنّها لا تريد تقبّل وهضم هذه الحقيقة.
يقول الجنرال مايكل كوريلا قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي إنّ تقارب الأزمات، والمنافسة يجعلان منطقة الشرق الأوسط الأكثر احتمالاً لإنتاج تهديدات ضدّ أميركا، وإثارة صراع إقليمي، وإخراج استراتيجية الدفاع الوطني عن مسارها. “أميركا يجب أن تظلّ منخرطة بشكل مستمرّ في جميع أنحاء المنطقة مع شركائها لأنّ ميزتها الاستراتيجية هي الشراكة العسكرية معهم”. ألن تسأل واشنطن الشركاء والحلفاء إذا ما كانت هذه القناعة تناسبهم وتلزمهم اليوم؟
تناور القوى الكبرى الثلاث أميركا سياسياً وروسيا عسكرياً والصين اقتصادياً لتثبيت نفوذها في أكثر من بقعة جغرافية
كان وما زال هدف واشنطن الذي لم يتبدّل على مدى عقود في منطقة الشرق الأوسط هو الاستثمار السياسي والأمنيّ والاقتصادي في “بؤرة الحروب الأبديّة”. ورفع الرئيس الأميركي جو بايدن منذ سنوات شعار “أميركا عادت” إقليمياً ودولياً على الرغم من إعلانه أنّ سياساته هو وفريق عمله ونظرته إلى المسائل ستكون مغايرة لسلفه دونالد ترامب. واصل بايدن سياسات التردّد والمماطلة والمساومة على الملفّات غير عابىء بتعارض ما يجري مع مصالح الكثير من الحلفاء والشركاء، ومتمسّكاً بالرهان على مفعول المنوّم الإقليمي الأميركي. ها هي واشنطن تحصد محاصيل ما زرعته.
هل يكفي كبار المؤثّرين في صنع سياسة واشنطن الإقليمية، وبينهم كوريلا طبعاً، العودة إلى مضمون كتاب ستيفن سايمون، أحد كبار المساهمين في دائرة صنع القرار الأميركي لسنوات طويلة، حول “الوهم الكبير” في سياسة أميركا الشرق أوسطية لمعرفة كيف تمّت عملية إدارة صنع القرارات، “وأين أخطأنا في التقدير والتخطيط والتنفيذ”.
تراجُع النفوذ الأميركي في المنطقة، سببه فقدان واشنطن للكثير من المواقع في الساحات الإقليمية والدولية الأخرى. ورهانها على إسرائيل لتعطيها ما تريد. وقناعتها أنّ دول المنطقة ستبقى في وضعية التأهّب الدائم أمام خنادق المواجهة والتمترس إلى ما لا نهاية.
الثمن الذي ستدفعه أميركا لن يكون في غزة أو في الملفّ الفلسطيني فقط، بل في تعريض مصالحها وتحالفاتها الإقليمية بمجملها للخطر
تناور القوى الكبرى الثلاث أميركا سياسياً وروسيا عسكرياً والصين اقتصادياً لتثبيت نفوذها في أكثر من بقعة جغرافية. اللاعب الإقليمي، مثل تركيا وإيران والسعودية ومصر، يناور على طريقته وبما يملكه من طاقات وقدرات لتثبيت دوره وحماية مصالحه أيضاً.
قد تكون أميركا نجحت في الحفاظ على قوّتها العسكرية الرادعة في العالم، لكنّ عليها أن تقبل أيضاً حقيقة مساهمة أكثر من توتّر إقليمي في الأعوام الأخيرة في انكشاف حجم تقاعسها وتردّدها المخالف لما أعلنته واشنطن حول حرصها على لعب دور القوّة الراعية للتوازنات الإقليمية وحماية مصالحها ومصالح حلفائها وشركائها.
إقرأ أيضاً: منتدى أنطاليا للدبلوماسية: لماذا يتردّد الغرب؟
قد تكون بداية طريق التغيير تحت سقف مجلس الأمن الدولي وداخل قاعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتلويح بتسهيل مهامّ محكمة العدل الدولية، وإيصال الأمور إلى دعم خطوة تشكيل المحكمة الدولية الخاصة لمساءلة إسرائيل على ما فعلته في غزة. هذا ما لن تفعله أية إدارة أميركية، وهو ما سيتحوّل إلى القشّة التي تقصم ظهر سياستها في الإقليم.
لمتابعة الكاتب على X: