كان متوقّعاً انفجار الخلاف بين “حماس” و”فتح” بعدما عهد الرئيس محمود عباس إلى محمد مصطفى تشكيل الحكومة الفلسطينية. الصراعات الإسرائيلية فجّرت أحقاداً نادراً ما كانت تظهر. التعارض في إدارة الحرب بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو أفرز لغة غير مسبوقة وصراعاً بين اللوبيات اليهودية في أميركا.
الخلافات داخل معسكرات أطراف الحرب الكارثية على غزة تتوالد قبل أن تضع أوزارها. غموض “اليوم التالي” يشير إلى أنّ الحرب ومآسيها ستتواصل. تلكّؤ أميركا ودول الغرب عن إنقاذ الغزّيّين من حرب التجويع الإسرائيلية عبر المعابر البرّية وابتداع الميناء البحري هما دليلا أصحاب هذا الاعتقاد.
القرار لِمَن؟
لكلّ فريق تصوّره، إن في إيصال المساعدات أو الهدنة وإدارة أمن القطاع أو في هويّة السلطة التي ستقود الحلّ السياسي، في إسرائيل وفلسطين. في الأولى تعالت المطالبة باستقالة بنيامين نتنياهو وإجراء انتخابات عامّة. وفي الثانية أثار تكليف محمد مصطفى تشكيل الحكومة الفلسطينية عاصفة من السجالات بين “حماس” و”فتح”، وضعت جهود إنهاء الانقسام في الثلّاجة. الأولى هاجمت مع ثلاثة فصائل أخرى “تفرّد” عباس، متّهمة السلطة بالانفصال عن الواقع. دأبت قيادتها، إزاء السعي الأميركي لقيام إدارة بديلة لها في غزة، على ترداد عبارة: “ما لم يأخذوه بالمعارك العسكرية فلن يأخذوه بالألاعيب السياسية”. هذا ما كرّره إسماعيل هنية وأسامة حمدان وغيرهما. أمّا “فتح” فاتّهمت “حماس” بالتسبّب بنكبة غزة. وسألت: “هل شاورت حماس القيادة الفلسطينية وهي تفاوض الآن إسرائيل وتقدّم لها التنازلات تلو التنازلات ولا هدف لها سوى أن تتلقّى قيادتها ضمانات لأمنها الشخصي؟”.
كان متوقّعاً انفجار الخلاف بين “حماس” و”فتح” بعدما عهد الرئيس محمود عباس إلى محمد مصطفى تشكيل الحكومة الفلسطينية
نظام السلطة أم قيادة الفصائل؟
عودة الانقسام من الباب العريض ستؤخّر تأليف حكومة محمد مصطفى. تكليفه تأخّر أصلاً في انتظار تبلور أجوبة أميركية أوروبية في شأن المستقبل الفلسطيني ووقف الحرب.
يعود الخلاف إلى أصله: القرار لِمن؟
مع إقرار “حماس” بالحاجة إلى انضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فهي تؤخّر هذه الخطوة. ميثاق المنظمة ينصّ على الاعتراف بإسرائيل وهي ترفض ذلك، وتلجأ إلى مخرج آخر لتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة التوافقية. يقتضي المخرج توحيد الموقف الفلسطيني بإنشاء هيئة قيادية تضمّ الفصائل الفلسطينية كافّة تشرف على الحكومة. مناصرو السلطة يرفضون ذلك لأنّ النظام الأساسي للمنظمة وللسلطة يحصر تسمية رئيس الحكومة برئيسها أبي مازن الذي يرفض مصادرة صلاحيّاته. يشبه الاقتراح الحمساوي، وفق ناشطين فلسطينيين، ما يجري في لبنان حالياً في شأن الفراغ الرئاسي. فريق “الممانعة” يصر على أن يُنتخب الرئيس بعد حوار بين الفرقاء ينتهي بتوافق، وهو ما يعطّل الدستور. ويخلق ذلك هيئة موازية للمؤسّسات الدستورية تمارس السلطة. فلسطينياً يؤدّي اقتراح المقاومة إلى تعليق صلاحيات رئيس السلطة ورئيس الحكومة المكلّف عبر وصاية هيئة الفصائل على تأليف الحكومة الفلسطينية ثمّ على عملها.
الشكوك الفلسطينيّة المتبادلة
من الطبيعي أن تخشى “حماس” استبعادها في تركيبة “اليوم التالي”، فهذا مطلب إسرائيلي واضح تسعى أميركا إليه باتّصالاتها مع السلطة.
يصعب إيجاد صيغة تستثني الحركة مهما كان الرفض الدولي لتصدّرها في القطاع. الأمر نفسه ينطبق على “فتح”، العمود الفقري للسلطة الوطنية الفلسطينية التي تحتفظ بحضور في القطاع عبر حوالي 80 ألف موظّف تدفع رواتبهم. وفي الحكومة المستقيلة وزراء من غزة، وسيكون لهؤلاء حضور في الحكومة الجديدة.
مع إقرار “حماس” بالحاجة إلى انضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فهي تؤخّر هذه الخطوة
في المقابل لدى السلطة شكوك في أن تتّجه الإدارة الأميركية إلى اتفاق ضمني مع “حماس” تحت الطاولة، على إدارة القطاع بغطاء ما. مصدر الشكوك إلحاح واشنطن على الجيش الإسرائيلي تحييد الشرطة التابعة لـ”حماس”، لا سيما في جنوب القطاع، من الضربات. وخصوم الحركة ارتابوا بالاجتماعات الأميركية الإسرائيلية القطريّة في الدوحة ملمّحين إلى بحثٍ في ترتيبات ما معها.
حوارات الدوحة وموسكو
سعت عواصم عدّة إلى رأب الصدع الفلسطيني المتواصل منذ 2007:
– أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني فاتح قادة الحركة المقيمين في الدوحة بالأمر، ولقي استعداداً إيجابياً للمضيّ في جهود توحيد الموقف الفلسطيني. ثمّ أبلغ الرئيس محمود عباس أنّه سيفعّل جهوده بعد الهدنة. فالمسؤولون القطريون انخرطوا في إشكاليات الوساطة حول الهدنة بين المراهنة على ضغوط واشنطن على إسرائيل، لتليين موقفها، وبين ممارسة الأخيرة الضغوط عليهم كي يعدّلوا في شروط “حماس”. وتردّد أنّ الجانب الأميركي دعاهم إلى تهديد قيادتها بطردها من قطر. لكنّ أمين سرّ اللجنة التنفيذية في “فتح” جبريل الرجوب التقى القيادة الحمساوية في الدوحة. بعدما زار الجزائر. وتمنّى على قيادتها استئناف الجهود التي بذلتها قبل أكثر من سنة لإنهاء الانقسام.
– موسكو احتضنت اجتماعاً للفصائل قاطبة لإعادة توحيد الموقف، أسفر في الأوّل من آذار عن بيان أعلن اتّفاقها على الاستمرار في جولات حوارية مقبلة. جديد البيان نصّه على “الوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضمّ القوى والفصائل الفلسطينية كاملة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”. فأدبيّات “حماس” لا تتعاطى عادة مع المنظمة بهذه العبارات. أشارت معلومات بعض من حضروا الاجتماعات إلى أنّ “حماس” تمثّلت بوجهتَي نظر، واحدة متشدّدة دخلت في مناكفة مع ممثّل “فتح” عزّام الأحمد، وأخرى مرنة وإيجابية.
أثار تكليف محمد مصطفى تشكيل الحكومة الفلسطينية عاصفة من السجالات بين “حماس” و”فتح”، وضعت جهود إنهاء الانقسام في الثلّاجة
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قال في افتتاح الاجتماع: “الرعاية الأميركية المنفردة واحتكار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والانحياز فيها هي المسؤولة عن الفشل الذي أدّى إلى تدهور الأوضاع وإلى عدم الاستقرار”. أرادت موسكو توظيف جانب من الاجتماع في إطار الصراع الطاحن مع أميركا. فمنذ حرب أوكرانيا ينعكس أيّ أمر على الصعيد الدولي بين الدولتين العظميين، حتى لو كانت المناسبة تشجيع الفلسطينيين على المصالحة. هكذا تتبادلان الفيتوات في مجلس الأمن حول وقف النار في غزة. لكنّ ألكسندر بوغدانوف أبدى استعداداً لاستضافة مزيد من الاجتماعات بين الفصائل لتوحيد موقفها.
وقالت مصادر متصلة بموسكو لـ”أساس” أنها أبلغت السفير الفلسطيني في روسيا انزعاجها من تكليف شخصية لا تحظى برضا الفصائل الأخرى وخصوصاً “حماس”. وذكّرت أنها كانت نصحت الرئيس عباس باختيار غير محمد مصطفى المقرّب منه. واعتبرت أنّ تسميته مخالفة لما اتفق عليه بضرورة اختيار شخصية تحظى بتوافق الفصائل.
منتدى الحوار في رام الله: لاستعادة فعّالية “فتح”
– شهدت مدينة رام الله قبل بضعة أسابيع تحت مظلّة “منتدى الفكر والحوار” فعّاليات وحوارات ونقاشات شارك فيها رموز تيّارات مختلفة في “فتح” والعديد من المستقلّين. وهدفت الحوارات إلى البحث في سبل إعادة القوة لـ”فتح”، وبالتالي للجسم الفلسطيني، تمهيداً لفتح الحوار والتلاقي مع “حماس”. وبعض المجموعات التي شاركت في هذا المنتدى على تواصل مع كوادر حمساوية في الضفة الغربية. وهناك قناعة لدى بعض الرموز التي شاركت في المنتدى بالحاجة إلى تجديدٍ في “فتح” بالتزامن مع ما هو مطروح من مهامّ جرّاء الحرب على المستوى الوطني.
– حتى جنوب إفريقيا سعت إلى لعب دور لعلّها تنجح في معالجة الانقسام فاستضافت قيادات فلسطينية. ولبريتوريا تجربة في هذا المجال إذ سبق أن استضافت قيادات من “فتح” و”حماس” منذ 2016. وتردّد أنّ ناصر القدوة الفتحاوي المعارض للرئيس عباس، والذي ينسّق مع الأسير الفلسطيني مروان البرغوتي، كان ممّن حضروا في عاصمة جنوب إفريقيا.
من الطبيعي أن تخشى “حماس” استبعادها في تركيبة “اليوم التالي”، فهذا مطلب إسرائيلي واضح تسعى أميركا إليه باتّصالاتها مع السلطة
القاهرة تنتظر الهدنة
– هناك من يعتقد أنّه ما لم تنشط القيادة المصرية في جهود المصالحة مجدّداً، يصعب توقّع نتائج عمليّة. فهي المعنيّة الأولى بأوضاع غزة وبالحالة الفلسطينية المستقبلية. وعلى الرغم من أنّ القاهرة احتضنت لقاءات بين التنظيمين مع بداية الحرب. هناك من يعتقد أنّ تركيزها في الظروف الراهنة ينصبّ على التوصّل إلى الهدنة، وعلى تفادي التهجير الواسع الذي يمسّ أمنها القومي. فتوحيد الموقف الفلسطيني يُفترض أن يحصل على قاعدة اتّضاح ملامح اليوم التالي، وليس قبله. وهذا يعني عدم جهوزية المسرح الفلسطيني للتركيبة الجديدة التي يفترض أن تدير الشأن الفلسطيني. فأميركا والمجتمع الدولي لا أجوبة واضحة لديهما على مستقبل الحكم الفلسطيني والأرض التي سيقف عليها.
إقرأ أيضاً: حكومة محمد مصطفى في فلسطين: إدارة الحرب… أو الحلّ؟
تكمن المعضلة في أنّ من حاربوا في غزة من تحت الأرض زهاء ستّة أشهر لن يقبلوا بعد وقف الحرب منعهم من لعب دورهم عندما يحين ظهورهم فوقها. بالمقابل من لديهم الشرعية والمقبولية الدولية ينتظرون ممّن هم تحت الأرض أن يبقوا في الظلّ. فهل يُسقط اختلاف الحسابات غزّة في فراغ السلطة؟
لمتابعة الكاتب على X: