لا تزال تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة حول “عدم استبعاد إرسال قوات أوروبية من أوروبا على الأرض” في أوكرانيا ضدّ روسيا، تثير الجدل. قادة الأحزاب الفرنسيّة اعتبروها تصريحات خطيرة يمكن أن تؤدّي إلى تدهور الأوضاع. قادة دول في الاتّحاد الأوروبيّ عبّروا عن استغرابهم ورفضوا إرسال قوات أوروبيّة إلى أوكرانيا لأنّه سيؤدّي إلى الانزلاق وتمدّد الحرب.
هل يدفع ماكرون أوروبا إلى إرسال قوات من حلف شمال الأطلسي لتخوض الحرب إلى جانب أوكرانيا ضدّ روسيا؟
سؤال كبير قد يغيّر وجه أوروبا وربما العالم.
في 26 شباط الفائت. وبينما كان زعماء 21 دولة أوروبية مجتمعين في باريس لمناقشة دعم أوكرانيا. صرّح الرئيس المضيف أن “لا اتّفاق رسميّاً اليوم على إرسال قوات (أوروبية) إلى الأرض (الأوكرانية). ولكن عمليّاً يجب عدم استبعاد أيّ شيء”.
بعد ساعات على تصريح ماكرون ردّ المستشار الألمانيّ بالقول: “ما اتّفقنا عليه منذ البداية لا يزال ساري المفعول للمستقبل. ولن يتمّ إرسال أيّ فرقة (عسكرية) وأيّ جنديّ إلى الأرض الاوكرانيّة. لا من قبل الدول الأوروبيّة ولا من قبل دول حلف شمال الأطلسي”.
ردُّ الزعيم الألمانيّ استدعى ردّاً من ماكرون الذي ذكّر بـ”أنّه منذ سنتين قال الكثير بيننا على هذه الطاولة: سوف نقترح إرسال أكياس للنوم وخُوَذ عسكريّة (لأوكرانيا). واليوم يقولون: يجب العمل بشكل أسرع وأقوى”. وقصد بالطبع المستشار الألمانيّ.
أظهرت التصريحات والردود المتبادلة بين الزعيمين خلافاً عميقاً بين عمودَيْ الاتحاد الأوروبيّ يتعدّى دعم أوكرانيا إلى ملفّات أوروبيّة. لكنّها أظهرت أيضاً أنّ كلام ماكرون لا يندرج في إطار استراتيجية أوروبيّة جديدة متّفق عليها لدعم أوكرانيا ومواجهة خطر روسيا.
أعلن المستشار الألماني صراحة أنّه “لا يمكن لألمانيا أن تقوم بما قامت به بريطانيا وفرنسا (ماكرون) على مستوى الأهداف”
“ماكرونيّات” استعراضيّة
إنّه فصل من فصول “الماكرونيّات” الاستعراضية. فالرجل يهوى الأسلوب الاستعراضي في السياسة. وقد شهدناه في لبنان في ملفّ تفجير مرفأ بيروت وفي ملفّ رئاسة الجمهورية. كما شاهده العالم خلال زيارته تل أبيب واقتراحه تشكيل تحالف دوليّ للقضاء على حماس مشابه للتحالف الدوليّ ضدّ داعش!
تصريحه ذاك لم يلقَ ردوداً من الحلفاء الذين كانوا منشغلين بدعم إسرائيل التي تعرّضت لنكسة عسكريّة غير مسبوقة في تاريخها. أمّا تصريحه عن أوروبا واحتمال إعلان الحرب على روسيا فقد استدعى ردّاً سريعاً من الحلفاء. فحماس ليست روسيا. وإرسال قوات عسكريّة أوروبيّة إلى أوكرانيا سيعيد شبح الحرب إلى أوروبا. ويهدّد بتمدّدها في أوروبا الشرقيّة. من هنا كان الردّ الألمانيّ الأقوى على تصريحات ماكرون. علماً أنّ ألمانيا هي الداعم الأوروبي الأوّل لأوكرانيا. وقد بلغت قيمة دعمها الإنسانيّ والماليّ والعسكريّ 22 مليار يورو.
خصوصيّة جيوسياسيّة لألمانيا
منذ بداية الحرب بدت ألمانيا، إضافة إلى بولندا، أكثر الدول خشية من هجوم روسيا على أوكرانيا لأسباب جيوسياسيّة متعدّدة:
1- ألمانيا تقع على حدود دول أوروبا الشرقيّة الصغيرة نسبياً التي كانت تاريخياً مركز الصراع بين روسيا والقوى الغربيّة.
2- للألمان تجربة حديثة في الحرب ضدّ روسيا. ففي سهولها تاهَ جنود الزعيم المُنتَحِر أدولف هتلر، وعلقت آليّاتهم في وحولها، ثمّ تجمّدوا في ثلجها. من هنا رفض ألمانيا تزويد كييف بصواريخ توروس البعيدة المدى (500 كلم) التي بإمكانها قصف أهداف في العمق الروسيّ. وقد أعلن المستشار الألماني صراحة أنّه “لا يمكن لألمانيا أن تقوم بما قامت به بريطانيا وفرنسا (ماكرون) على مستوى الأهداف”.
3- ألمانيا ليست دولة نوويّة. فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية فُرضت عليها العقوبات ومُنعت من بناء قوّة عسكريّة. وهو ما جعلها تتأخّر عن مثيلاتها من الدول، عِلماً أنّ لديها رابع اقتصاد عالميّ.
أظهرت التصريحات والردود المتبادلة بين الزعيمين خلافاً عميقاً بين عمودَيْ الاتحاد الأوروبيّ يتعدّى دعم أوكرانيا إلى ملفّات أوروبيّة
معارضة فرنسيّة
في الداخل الفرنسيّ كلام ماكرون يلقى معارضة واسعة. فبعد أسبوع على تصريحه، دعا سيّد الإليزيه رؤساء الأحزاب إلى اجتماع صباح الخميس 6 آذار. وقد استمرّ ثلاث ساعات، وأكّد فيه أن “لا حدود” و”لا خطوط حمر” للدعم الفرنسيّ لأوكرانيا بمواجهة روسيا. بحسب ما قال فابيان روسيل، الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ. وهو كلام أثار المخاوف واستدعى الردود.
أعلن الزعيم الجديد لحزب التجمّع الوطنيّ (اليمين المتطرّف) جوردان بارديلا أنّ “فرنسا لن تدخل الحرب ضدّ روسيا”. من جهتها قالت زعيمة حزب البيئة مارين توندولييه إنّ المشهد يدعو إلى القلق. فـ”رؤية رئيس الجمهورية الفرنسيّة يشرح أنّنا نمتلك (السلاح النوويّ)، في مواجهة شخص (بوتين) يمتلك السلاح النوويّ، و(يريد أن) يُظهر أن لا حدود لنا (في الردّ)”. أمّا مانويل بومبارد. الأمين العامّ لحزب “فرنسا الأبيّة”. فقال إنّه دخل الاجتماع قلقاً، وخرج منه أكثر قلقاً لأنّ الرئيس، بدل أن يتراجع عن تصريحاته، أكّدها.
انتخابات أوروبيّة على وقع التهديدات الروسيّة
استمرّ ماكرون بسياسة الهروب إلى الأمام. دعا البرلمان إلى التصويت على دعم أوكرانيا. فصوّت أعضاء الجمعية الوطنيّة بإغلبية 372 صوتاً لصالح دعم أوكرانيا ومعارضة 99. كما صوّت الشيوخ بإغلبية 293 ومعارضة 22. بيد أنّ غالبية النواب والشيوخ رفضوا إرسال قوات اوروبية إلى أوكرانيا. في كلّ الأحوال التصويت في المجلسين رمزيّ لأنّه غير ملزم للحكومة. فبحسب الدستور الفرنسيّ (المادّة 15) يمكن لـ”رئيس البلاد. بصفته قائد القوّات المسلّحة. إصدار الأوامر بإرسال قوات عسكرية للتدخّل خارج البلاد”. وعلى الحكومة إبلاغ البرلمان خلال ثلاثة أيام (المادّة 35، البند 2). كما عليها الحصول على موافقة البرلمان إذا ما تخطّى هذا التدخّل مدّة أربعة أشهر (المادّة 35، البند 3).
استمرّ ماكرون بسياسة الهروب إلى الأمام. دعا البرلمان إلى التصويت على دعم أوكرانيا
هل يريد فعلاً ماكرون إقحام فرنسا وأوروبا وحلف شمال الأطلسي في الحرب المباشرة مع روسيا يمكن أن يُستعمل فيها السلاح النوويّ؟
زعيم حزب الجمهوريين والأمين العامّ للحزب الاشتراكيّ كشفا عن هدف ماكرون من وراء تصريحاته. اعتبره “استغلالاً” للتهديد الروسيّ في حملة انتخابات البرلمان الأوروبيّ التي ستجري في حزيران المقبل. التي يخوضها حزب النهضة الماكرونيّ في مواجهة حزب التجمّع الوطنيّ المتقدّم بـ13 نقطة بحسب استطلاعات الرأي. ويبدو أنّ هذا ما قصده ماكرون من وراء تصريحه. خاصّة أنّ حزب لوبان، على غرار دونالد ترامب في أميركا، متّهم بعلاقات خاصّة مع سيّد الكرملين.
إقرأ أيضاً: الانتخابات التركية البلديّة: جسر أردوغان.. لولاية ثالثة؟
لكن هل يجوز اللعب بورقة استقرار الاتحاد الأوروبيّ ووحدته من أجل انتخابات أوروبيّة؟
إنّها “فعلاً مشكلة هواة في السياسة”، كما علّقت زعيمة حزب البيئة.
لمتابعة الكاتب على X: