في الحلقة الثالثة من مجموعة الأجزاء التي ينشرها موقع “أساس” عن محمود درويش. كما رآه وعرفه عن كثب السياسي والكاتب نبيل عمرو في كتابه “محمود درويش في حكايات شخصية”. رثاء الشاعر الفلسطيني للرئيس ياسر عرفات (أبي عمّار). والنصّ إذ جاء نثريّاً إلّا أنّه بدا شاعرياً وسياسياً. وتضمّن علاقة أبي عمار مع كلّ ما عاشه. فحضرت العواصم العربية من مدخل فلسطين، “اسم أبي عمّار الجديد في حياة الفلسطينيين”، على ما يقول محمود درويش في تعريف الرئيس الفلسطيني. وفي ما يلي نصّ الرثاء:
تأخّر حزني عليه قليلاً، لأنّي كغيري توقّعت من سيّد النجاة أن يعود إلينا هذه المرّة أيضاً ببداية جديدة. لكنّ الزمن الجديد أقوى من شاعرية الأسطورة ومن سحر العنقاء. وللتأبين طقس دائم، يبدأ باستعمال فعل الماضي الناقص. كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا. وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة، إلى واقع تأسيسها المتعثّر. لكنّ للأبطال التراجيديين قدراً يشاكسهم، ويتربّص بخطوتهم الأخيرة نحو باب الوصول، ليحرمهم من الاحتفال بالنهاية السعيدة بعمر من الشقاء والتضحية. لأنّ الزارع في الحقول الوعرة لا يكون دائماً هو الحاصد. يعزّينا في هذا المقام أنّ أفعال هذا القائد الخالد، الذي بلغ حدّ التماهي التامّ بين الشخصي والعامّ، قد أوصلت الرحلة الفلسطينية الدامية إلى أشدّ ساعات الليل حلكة. وهي الساعة التي تسبق الفجر، فجر الاستقلال المرّ، مهما تلكّأ هذا الفجر، ومهما أُقيمت أمامه أسوار الظلاميين العالية.
يعزّينا أيضاً أنّ بطل هذه الرحلة الطويلة، الذي ولد على هذه الأرض الشامخة، قد عاد إليها ليضع حجر الأساس للمستقبل. وليجد فيها راحته الأبدية، لتغتني أرض المزارات بمزار جديد.
الرموز أيضاً تتخاصم، كما يتخاصم التاريخ مع الخرافة، والواقع مع الأسطورة. لذلك كان ياسر عرفات، الواقعي إلى أقصى الحدود، في حاجة أحياناً إلى تطعيم خطابه بقليل من البعد الغيبي.
كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا. وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة
لأنّ الآخرين أضافوا إلى الصراع على الحاضر صراعاً على الماضي، بمحو الحدود بين ما هو تاريخي وما هو خرافي. ولتجريد الفلسطيني من شرعية وجوده الوطني على هذه الأرض. لكنّ البحث عن الحاضر هو شغل الناس وشاغلهم، وهو ميدان عمل السياسة، وعمل القائد المتطلّع إلى الغد.
أعاد ترميم الحكاية والرحلة. نجا من غارة على غرفة النوم في تونس. ونجا مرّةً أخرى من سقوط طائرته في الصحراء الليبية. نجا من آثار حرب الخليج الأولى. ونجا من صورة الإرهابي واستبدلها بصورة الحائز جائزة نوبل للسلام. وحقّق نبوءته التي سكنته طوال العمر. عاد إلى أرض فلسطين، عاد إلى أرض ميعاده.
لو كانت تلك هي النهاية لانقلبت التراجيديا الإغريقية على شروطها. لكنّ شارون، العائد من ضواحي بيروت نادماً على ما لم يفعل، سيلاحق خصمه الكبير في رام الله. سيحاصره ثلاث سنوات. سيحوّل مقرّه أطلالاً، وسيسمّم حياته بالحصار والعزلة، وسيحرمه من الموت كما يشتهي شهيداً في مقرّه. فإنّ شارون لا يحارب الشخص ولا يحارب نصّه الوطني فحسب، بل يحارب إشعاع الرمز في الزمن، ويحارب أثر الأسطورة في ذاكرة الجماعة.
لكنّ ياسر عرفات، الذي يعي بعمق ما أعدّ لنفسه من مكانة في تاريخ العالم المعاصر، أشرف بنفسه على توفير وجع ضروري للفصل الأخير من أسطورته الحيّة. فطار إلى المنفى ليلقي عليه تحيّة وداع أسلم معها روحه. فالبطل التراجيدي لا يموت إلا في المنفى.
إقرأ أيضاً: أوّل الحبّ: لماذا ترك محمود درويش الحصان وحيداً؟ (2/4)
وفي طريق عودته المجازية، عرّج ذو الهوى المصريّ على مصر ليسدّد لها دينه العاطفي. وعند عودته النهائية، التي لا منفى بعدها، ألقى النظرة الطويلة الأخيرة على الساحل الفلسطيني المغروز كسيف في خاصرة البحر. ثمّ نام. تدثّر الجسد الخفيف بأرض الحلم الثقيل ونام. لا لينهض كصنم أو أيقونة، بل ليكون فكرةً حيّةً تحرّضنا على عبادة الوطن والحرّية، وعلى الإصرار على ولادة الفجر بأيدٍ شجاعة وذكيّة.