أوّل الحبّ: لماذا ترك محمود درويش الحصان وحيداً؟ (2/4)

مدة القراءة 7 د

في الحلقة الثانية هذه، نستمر في نشر أجزاء من كتاب “محمود درويش في حكايات شخصية”، للمناضل والسياسي والكاتب الفلسطيني نبيل عمرو، وفيها يتناول علاقة درويش بالحب والحب الأول في حياة الشاعر الذي يصرّ على تغيير المصطلح أو العبارة إلى “أول الحب”. في الحلقة أيضاً يتحدث درويش عن مراحله الشعرية الأربعة: الأولى في حيفا وطابعها البساطة ويقول عن قصائدها إنها ربيعية. والثانية عندما اصطدم بالواقع العربي وانتقل من بلورة وتطوير الحداثة الشعرية إلى متطلبات نداء الدم المسفوك، أما الثالثة فهي المرحلة الباريسية وهي “من أخصب مراحل تجاربي الشعرية”، فيها هدّأ إيقاعه الشعري، وخفف الحماسة التي سيطرت على الكثير من قصائده. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة ما بعد تجربته مع الموت وفيها كتب “الجدارية”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً”، وروى سيرته الذاتية بطريقة شعرية.

– تكلّمنا كثيراً عن الشعر، ولكنّني أودّ الكلام الآن عن المرأة في حياة محمود درويش منذ الحبّ الأوّل. أنت لا تحبّ هذه المفردة، وسأترك لك تصحيحها..!!

– محمود: أوّلاً دعني أعترف بأنّني خجول، ولستُ جريئاً إلا عندما أكتب عن الحبّ. ولكن عندما أتكلّم عنه في مقابلة فهذا يسبّب لي حرجاً شديداً.

– وماذا لو حاولنا كسر هذا الحرج؟

– محمود: نحاول!!

– التمادي في بعض الأسئلة، مثلاً..!!

– محمود: كما قلت: الحبّ الأوّل من أسخف المصطلحات التي اخترعها البشر. عندما يتذكّر الإنسان حبّه الأوّل يضحك في نفسه. وعندما تتذكّر المرأة حبّها الأوّل تضحك في نفسها أيضاً. لا نريد أن نضع الخيبة على عاتق الرجل فقط.

– هذا عن التجربة بشكل عامّ، ولكن لا تبتعد عن السؤال.

– محمود: أنا أقرأ الكتب، يعني عندي ثقافة حبّ من خلال القراءة. أنا أفضّل تعبير أوّل الحبّ..

– آه، نعم هذه هي الكلمة.

– محمود: اختلفت مرّة مع مترجمي الفرنسي السابق، لن أسمّيه، حول هذه الكلمة. عندي قصيدة أمجّد فيها ما يُمجّد في الحياة. من هذه الأشياء أوّل الحبّ. فترجمها الحب الأوّل. قلتُ له: هذا المعنى عكس أوّل الحبّ.

 في الحلقة أيضاً يتحدث درويش عن مراحله الشعرية الأربعة: الأولى في حيفا وطابعها البساطة ويقول عن قصائدها إنها ربيعية

– تقصد أوّل الحب أشهى؟

– محمود: لا. أوّل الحبّ: أنت ذاهب إلى أوّل مغامرة، وإلى مجهول، تتفتّح كلّ حواسّك. كلّ إشعاعك الداخلي يتفتّح من أجل سفر لملاقاة شخص آخر، لقاء عالمين مجهولين وجهاً لوجه. وبالتالي، هذه الفكرة، أو هذا الاستدعاء النفسي والروحي هو أجمل ما في الحبّ. عندما يتطوّر الحبّ، وتنكشف المرأة، وينكشف الرجل، كلّ واحد منهما أمام الثاني، أعتقد أنّ درجة الكلام تخفّ بشدّة. طبعاً، أنا لا أقدّم درساً في الحبّ.

– هذه وجهة نظرك، طبعاً.

– محمود: هذه وجهة نظري. وأنا ملزم بالجواب. أمّا أن تسألني عن مكانة المرأة: أعترف بعدم وجود قصّة حبّ كبيرة في حياتي. يعني عندي حبّ كثير، عندي أوّل حبّ كبير، لكن ليس عندي قصّة حبّ كبيرة أتحدّث عنها. وأرجو أن نكفّ عن الكلام في هذا الموضوع.

– سأحاول الالتزام، بصعوبة بالغة. فكّرتُ قبل أن تمنعني عن السؤال في القول: من هي، ودون ذكر أسماء، التي أشعلت وأضرمت ما في داخلك، ذلك المزيج السحري من الرغبة والشوق. هناك حكاية من نوع ما..

– محمود: ربّما هناك حكايات. ولكن ليس لديّ مرجعية عاطفية. أراغون كتب عن إلسا، وليس لديّ ليلى قيس. أعتقد تلك أساطير اخترعها قيس. الحرمان يعني عدم تحقّق الحبّ في علاقة جدّية. لو تمّ ذلك لتغيّر الشعر العذري أصلاً. المرأة التي تترك أعظم الأثر هي المرأة غير المتحقّقة. نبحث عنها وإذا عثرنا عليها سرعان ما تختفي. يبدو لي أنّ عدم تحقيق الرغبة، وبلغة أبسط، الحرمان، أو الظمأ هو حافز أكبر للكتابة الشعرية عن الحبّ. وكلّ كلامنا عن الشعر الآن، وكلّ مبرّر كلامنا عن الحبّ هو الشعر.

– ولكن قبل الكفّ عن السؤال..

والثانية عندما اصطدم بالواقع العربي وانتقل من بلورة وتطوير الحداثة الشعرية إلى متطلبات نداء الدم المسفوك

– محمود: أمّا عندما يتحقّق الحبّ، ويعيش في مؤسّسة. ولا توجد لديّ تجربة كاملة في هذا الموضوع. عندي تجارب ناقصة. فقد يتّخذ أشكالاً أخرى: بناء الأسرة. والحبّ ينتقل من شبق وحنين جارف إلى صداقة ومشاركة في بناء أسرة، وينتقل إلى الأطفال. الحبّ يتحوّل لكنّه لا يختفي. لم أصل إلى مرحلة أرى فيها حبّي وقد تحوّل إلى أسرة وأطفال.

– مفهوم، أنت تفلت أيضاً من أسطورة الحبّ التي فُرضت عليك..!!

– محمود: “أسطورة حلوة”.

– وقد نستمتع بها، نجد عندما نقرأ شعرك ذلك الالتباس بين حالات الحبّ الكثيرة في هذا الشعر. ونرى نساءً عاديّات في ثنايا القصائد، كما يُقال. على أيّة حال، سنترك هذا الموضوع.

– محمود: هذا التباس فظيع. كأنّ الإنسان يعانق شجرة. جميل أن نقبّل شجرة، لكن ليس بهذا الشبق. المشكلة أنّ كلّ امرأة تظهر [في القصائد] تُسقط عليها كلمات خارج كينونتها النسائية، وتُحوّل إلى مُعادل للوطن.

– نحن في انتظار ضيوف سيلتحقون بنا عمّا قريب. ولكن أريد العودة إلى المراحل الشعرية المختلفة، الفصول الأربعة، في حياة محمود درويش. لا أريد الخوض في النقد الأدبي، باختصار كيف تصف هذه المراحل؟

– محمود: أنت تقترح عليّ أن أكتب كتاباً عن الفصول الأربعة، لكن يمكن أن نضع عناوين لهذا الكتاب.

– محمود: أستطيع تحديد المرحلة الأولى، وهي كتابتي في حيفا. مرحلة الشعر البسيط، الذي يتكلّم عن الأمّ والأب والجدّ والأرض وأوّل الحبّ.. إلخ. في هذه المرحلة عدّة تيّارات، يعني ليست متجانسة. وفيها أيضاً “سجّل أنا عربي”. فيها حيرة العثور على خيار. ولكنّ الطابع العامّ كان البساطة. قصائد ربيعية، وهذا فصل الربيع.

 المرحلة الأخيرة هي مرحلة ما بعد تجربته مع الموت وفيها كتب “الجدارية”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً”، وروى سيرته الذاتية بطريقة شعرية

المرحلة الثانية: اصطدامي بواقع العالم العربي، عندما دخلت التجربة العربية في القاهرة، وفي بيروت. كانت أوّل احتكاك لي بالحداثة الشعرية والعربية عموماً في صخبها ونقاشها ومعاركها وتعدّد خياراتها. وقد تحوّل شعري، أو أخذ طابع الدخول في معمعة هذا السؤال الحداثي، واخترقت الحرب هذه المرحلة أيضاً.. الحرب في لبنان والاجتياح الإسرائيلي. وبالتالي، هذه الحرب أخرجتني من مشروعي الشعري، من بلورة وتطوير الحداثة الشعرية إلى متطلّبات نداء الدم المسفوك. مراثي الكثير من أصدقائي. والكتابة عن تل الزعتر. وغير ذلك من القصائد الكبيرة التي لا أعرف مدى انسجامها مع بدايات ما كتبته في بيروت. وخاصة عندما سبقتها نقطة انعطافي في الكتابة الشعرية في قصيدة “سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا”، التي كتبتها في القاهرة. وهذا، أيضاً، ربيع.

الصيف: مرحلة إقامتي في باريس. أعتبر هذه المرحلة من أخصب مراحل تجاربي الشعرية. فالمسافة وفّرت لي فرصة للتأمّل في ذاتي، وفي لغتي وموضوعي. مسافة التأمّل هذه هدّأت إيقاعي الشعري، وخفّفت الحماسة التي سيطرت على الكثير من قصائدي، وجعلتني أتأمّل أسئلة الوجود والحياة والشعر، التي يطرحها إنسان طبيعي في هذا العالم.

إقرأ أيضاً: الساسة والسياسة: محمود درويش وياسر عرفات (1/4)

مرحلة الخريف: ما بعد تجربتي مع الموت، عندما كتبتُ “الجدارية”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً” حين رويت سيرتي الذاتية بطريقة شعرية. أمّا مرحلة الشتاء فلم أصلها بعد. أريدُ أن أُطيل عمر الخريف، لأنّ الخريف أجمل فصولي. أحبّ الخريف أكثر من بقيّة الفصول. فهو فصل يلتقي فيه الشباب مع الحكمة، تلتقي فيه الطفولة مع التأمّل الحكيم.

[في هذه اللحظة يظهر عبر نظام الفيديو كونفرس الفنّان مارسيل خليفة]

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…