توظّف روسيا في الأسواق المالية الغربية (أوروبا والولايات المتحدة) حوالي 300 مليار دولار. تختلف واشنطن وباريس حول كيفية التعامل مع هذا المبلغ الضخم. الولايات المتحدة تقول على لسان وزير ماليّتها جانيت يالين إنّ ثمّة مبرّراً قانونياً لمصادرة أموال روسيا وتحويلها كتعويضات إلى أوكرانيا. غير أنّ وجهة النظر الفرنسية بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مناقضة لذلك تماماً. فوزير المالية الفرنسي برونو لوماير قال إنّ مصادرة أموال روسيا المجمّدة هو انتهاك للقانون الدولي.
تعكس وجهتا النظر موقفين متناقضين من القضية الأوكرانية لكلّ من فرنسا والولايات المتحدة. وهذا الأمر ليس جديداً، إلا أنّ التباين يزداد وضوحاً والخرق يزداد اتّساعاً بين باريس وواشنطن، وتحديداً بين جو بايدن وإيمانويل ماكرون. وهو التباين الذي يتقرّر في ضوئه مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فالتباين مرشّح للاتّساع إذا ما تمكّن دونالد ترامب من العودة ثانية إلى البيت الأبيض، وهو الملتزم بالموقف التالي:
تحميل الدول الأوروبية المسوؤلية العسكرية والمالية للدفاع عن نفسها، وتخفيض حجم المساهمة المالية العسكرية والسياسية الأميركية في الحلف. وقد ردّد ترامب مراراً أنّه حان الوقت لتتوقّف الولايات المتحدة عن تقديم “الخدمات المجّانية”، سواء للأوروبيين أو للآسيويين أو غيرهم. وسبق له أن هدّد بسحب عضوية بلاده من الحلف الأطلسي عندما كان رئيساً. وإذا عاد إلى البيت الأبيض كما يتوقّع كثيرون، فسوف يحاول فرض هذه السياسة. وهو ما يقلق أوروبا، ويحمل الرئيس الفرنسي منذ الآن على التفكير بالصيغة البديلة. ومن هنا الكلام المتناقض حول روسيا وحول دورها في أوكرانيا.
هندسة الأمن الأوروبي
حاول الرئيس الفرنسي منذ عام 2019 فتح الطريق أمام روسيا للانضمام إلى عمليّة “هندسة الأمن” الأوروبي. كانت روسيا في ذلك الوقت قد سيطرت على شبه جزيرة القرم. بل كان قد مرّ نصف عقد على هذه السيطرة التي عارضتها الولايات المتحدة.
تراجعت العلاقات الفرنسية مع بوتين ولم تتقدّم مع بايدن ولا حتى مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي
ثم في عام 2022، أي بعد التوسّع العسكري الروسي في شرق أوكرانيا، حذّر الرئيس ماكرون من أيّ ردّ فعل يسيء إلى روسيا ويقلّل من شأنها. واستمرّ بالتواصل الهاتفي مع الرئيس بوتين في الوقت الذي قاطعه الرؤساء الغربيون جميعاً.. بمن فيهم الرئيس الأميركي.
ولكن اليوم يقفز الرئيس ماكرون من فوق ذلك كلّه إلى موقف معاكس تماماً. فهو يقترح الآن “عدم استبعاد إرسال قوات أوروبية الى أوكرانيا”. ويشكّل هذا الاقتراح عنواناً لسياسة فرنسية جديدة تستبق عودة الرئيس الأميركي السابق ترامب إلى البيت الأبيض مع سياسته السلبية تجاه أوروبا والحلف الأطلسي. وسياسته الانفتاحية على روسيا وعلى الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً.
لم يعد الرئيس ماكرون يؤمن بما قاله في عام 2019 عن حلف شمال الأطلسي من أنّه، أي الحلف، يشكو من “السكتة الدماغية”. وحذّر الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف من أن تصبح مجرّد أدوات بيد الدبلوماسية الأميركية. فما الذي تغيّر؟ وما الذي حمل الرئيس الفرنسي على تغيير موقفه؟
ماذا يشغل العالم؟
هناك أمران أساسيان يشغلان العالم، إلا أنّ فرنسا الرئيس ماكرون تلعب دوراً هامشياً في كلّ منهما. الأمر الأوّل هو الحرب الروسية في أوكرانيا. والأمر الثاني هو الحرب الإسرائيلية في غزة.
لم يعد الرئيس ماكرون يؤمن بما قاله في عام 2019 عن حلف شمال الأطلسي من أنّه، أي الحلف، يشكو من “السكتة الدماغية”
تراجعت العلاقات الفرنسية مع بوتين ولم تتقدّم مع بايدن ولا حتى مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، على الرغم من الاقتراح الفرنسي بتقديم مساعدة مالية أوروبية لأوكرانيا تبلغ 54 مليار دولار تعويضاً لها عن تجميد المساعدات الأميركية المالية لأوكرانيا في الكونغرس.
كذلك تراجعت العلاقات الفرنسية أكثر مع السلطة الفلسطينية ولم تتحسّن مع السلطة الإسرائيلية.
هذا يعني تراجع الدور والحضور الفرنسيَّين في أوروبا (البوابة الأوكرانية)، وفي الشرق الأوسط (البوابة الفلسطينية).
فهل مبادرة ماكرون الجديدة تقلب الطاولة في كلّ من أوروبا والشرق الأوسط لتعيد طرح فرنسا لاعباً أساسياً في المعادلة الدولية؟
في أوروبا تخوّف من مطامع روسيا الكبرى أطلقه التوسّع الروسي في شرق أوكرانيا، وقبل ذلك في شبه جزيرة القرم.
في الشرق الأوسط تخوّف أيضاً من مطامع إسرائيل الكبرى يجسّده بناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية المحتلّة. وتهجير أهالي غزة من القطاع باستخدام أسلحة الدمار الشامل، التدمير والتجويع، كما نصّ على ذلك قرار المحكمة الدولية.
إقرأ أيضاً: الحلّ الأميركيّ: قبل فوات الأوان
لم تتمكّن فرنسا الرئيس ماكرون من أن تلعب دوراً خاصّاً في أوروبا. ولم يُسمح لها بأن تلعب دوراً خاصّاً في الشرق الأوسط. ويشكّل تقرير مصير المنطقتين، الأساس والقاعدة للنظام العالمي الجديد.
لا تريد فرنسا أن تكون تابعاً لأميركا أو لروسيا. إنّها الروح الديغولية التي انبثقت بعد الحرب العالمية الثانية، لكنّ هذه الروح تحتاج إلى ديغول.. وليس إلى ماكرون.