تصويت الكنيست الإسرائيلي بأغلبية 99 صوتاً من أصل 120 ضدّ أيّ اعتراف أحاديّ الجانب بدولة فلسطينية يرسم الصورة الحقيقية لمجتمع إسرائيلي يرفض السلام بكلّ أشكاله. مجتمعٌ يرسل رسالة قاسية لمن دعا إلى التطبيع، أو لمن فكّر فيه سبيلاً إلى السلام. المجتمع الذي اغتال إسحاق رابين ها هو اليوم يغتال الفرصة السانحة للسلام.
تبدّل المشهد فجأة في غزّة من تفاؤل بقرب الاتّفاق على هدنة طويلة إلى “كابوس” الهجوم على رفح الفلسطينية، على حدود مصر. فقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مطالب حماس لتحرير الرهائن ووقف إطلاق النار. كما رفض أي اعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينيّة. وبالأمس صوّت الكنيست الإسرائيلي بإغلبية 99 صوتاً من أصل 120 لصالح قرار اقترحه نتنياهو ضد أي “اعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية”. ما يؤكّد رفض إسرائيل، وليس المتطرّفين فيها، لقيام الدولة الفلسطينيّة التي باتت مطلباً عالمياً. وطلب من الجيش الإسرائيلي إعداد “خطّة لإجلاء” مئات آلاف المدنيين من رفح قبل البدء بهجوم برّيّ. عملياً طلب إعداد خطّة للهجوم على رفح.
تصريح نتنياهو وإعلانه رفضه مطالب حماس استدعى استنفاراً دبلوماسيّاً عالمياً يحذّر من كارثة إنسانيّة:
- الأمين العامّ للأمم المتحدّة أنطونيو غوتيريش تكلّم عن “الكابوس الإنسانيّ بالفعل مع تبعات إقليميّة لا يمكن وصفها”، نتيجة هذا الهجوم إذا ما حصل.
- مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبيّ جوزف بوريل حذّر من “كارثة إنسانية تفوق الوصف”.
- وزير الخارجية البريطانيّ عبّر عن “قلق عميق إزاء احتمال وقوع هجوم عسكريّ في رفح”.
- نظيرته الألمانيّة أنالينا بيربوك قالت إنّ الهجوم إذا حصل قد يشكّل “كارثة إنسانيّة متوقّعة”.
- .المملكة العربية السعوديّة عبر بيان صدر عن وزارة الخارجية دعت إلى “ضرورة انعقاد مجلس الأمن عاجلاً لمنع إسرائيل من التسبّب بكارثة إنسانيّة وشيكة يتحمّل مسؤوليّتها كلّ من يدعم العدوان”.
- من جهته قال وزير الخارجية المصريّ إنّ “الأمر يتطوّر بشكل سلبيّ وينبئ بمزيد من الضحايا ووضع إنسانيّ كارثيّ”.
تصريح نتنياهو وإعلانه رفضه مطالب حماس استدعى استنفاراً دبلوماسيّاً عالمياً يحذّر من كارثة إنسانيّة
محاولة للوقوف بوجه الجنون
الاستنفار الدبلوماسيّ سببه إدراك الجميع لـ “الجنون” الذي يحكم إسرائيل. فقد أثبتت أشهر الحرب الأربعة على غزّة أنّ ما يقود إسرائيل هي أربعة أنواع من الجنون:
1- جنون الانتقام: انتقام ليس فقط من حماس، إنّما من الفلسطينيين الذين أظهروا دعمهم لحماس. لذلك لم تنحصر حربهم على غزّة وإنّما تمدّدت إلى الضفة الغربيّة حيث تقتحم القوات الإسرائيليّة يوميّاً مخيّماتها ومدنها وتعتقل العشرات من أبنائها. وسلّمت جزءاً من الأموال المستحقة للسلطة الفلسطينية، وهو ما زاد من حال الفقر بين أهل الضفّة ويهدّد بانفجار قريب فيها.
2- جنون الفشل: منذ بداية الحرب وضعت حكومة الحرب الإسرائيليّة هدفين: تحرير الرهائن والقضاء على حماس. لم تحرّر سوى اثنين منهم بعملية عسكريّة في جنوب رفح بحسب ما أعلنت أمس. وهو إعلان ربّما لتأكيد ادّعاءات تل أبيب أنّ حماس تتمركز اليوم في رفح لتبرير الهجوم على المدينة. أمّا حماس فلم تسقط. لا تزال “كتائب القسّام” تحارب وتقتل جنوداً إسرائيليين. ولم يتمّ اغتيال أيّ من قياداتها الرئيسيّة المسؤولة عن هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023).
3- جنون بنيامين نتنياهو: الذي يطيل أمد الحرب أملاً بانتصار يساعده في الدفاع عن نفسه في التحقيقات حول فساده، التي تنتظره بعد الحرب. وأُضيفت إليها اتّهامات بالفشل الاستخباري والسياسي الذي سمح بحصول “طوفان الأقصى”. ويُضاف إليه جنون وزير دفاعه يوآف غالانت الذي يتحمّل مسؤولية كبرى عن فشل دفاعات إسرائيل في 7 تشرين الأول. وتنتظرهما المساءلة بعد الحرب.
4- جنون المتطرّفين: حلفاء نتنياهو في الحكومة التي عُرفت منذ تشكيلها بأنّها أكثر حكومة متطرّفة عرفتها إسرائيل، وأكثرها سوءاً.
حلفاء نتنياهو في الحكومة التي عُرفت منذ تشكيلها بأنّها أكثر حكومة متطرّفة عرفتها إسرائيل، وأكثرها سوءاً
ضوء أخضر أميركيّ؟
إضافة إلى “جنون” القادة في إسرائيل، ربّما ما استدعى الاستنفار الدبلوماسيّ العالميّ كلام واشنطن، الداعم الأوّل لإسرائيل، عن الهجوم على رفح. فبحسب البيت الأبيض طلب الرئيس الأميركي من نتنياهو عدم المضيّ في عملية عسكريّة في رفح “من دون خطّة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ لضمان الأمن والدعم لأكثر من مليون شخص لجأوا إلى هناك”. وقال منسّق السياسات الاستراتيجيّة في مجلس الأمن القوميّ الأميركيّ جون كربي: “نعتقد أنّ القيام بعملية عسكرية في هذا الوقت سيكون بمنزلة كارثة لهؤلاء الأشخاص. نحن لن نؤيّد ذلك”.
تصريحات تدفع إلى طرح الأسئلة: بعد كلّ ما جرى في غزّة، هل يمكن التعويل على “مصداقية” لحكومة الحرب الإسرائيليّة؟ وإذا كان الآن ليس الوقت المناسب للقيام بهذه العملية العسكريّة، فهل هذا يعني أنّه في الآتي من الأيام سيكون الوقت مناسباً للقيام بها، بالنسبة للإدارة الأميركيّة؟
التصريحات الأميركيّة تعني أحد أمرين:
- إمّا أنّ الإدارة الأميركيّة قد أعطت الضوء الأخضر لعملية عسكرية في رفح.
- أو أنّها فقدت كلّ قدرة على لجم نتنياهو وحكومته.
وفي الحالين الوضع سيكون كارثياً و”كابوساً إنسانياً”، كما قال غوتيريش. لماذا؟
واقع أحوال رفح اليوم
تأوي رفح اليوم الفلسطينيين الهاربين من جحيم الحرب في شمال ووسط القطاع. ويراوح عددهم ما بين 1.3 و1.5 مليون نسمة، أي خمسة أو ستّة أضعاف سكان المدينة (280 ألفاً). يقيمون في مخيّمات أقامتها ما بقي من مؤسّسات دوليّة عاملة في القطاع وبما تيسّر. وهو ما يعني أنّ أكثر من نصف سكان قطاع غزّة، المكتظّ سكانيّاً أصلاً، يقيمون في رفح التي تبلغ مساحتها 151 كلم2، أي حوالي ثلث مساحة القطاع (365 كلم2).
إضافة إلى ذلك، تفتقر رفح اليوم إلى أدنى مقوّمات الحياة بعد أربعة أشهر على تقطير دخول المساعدات الإنسانية (الغذائية والطبيّة وغيرها). وهو ما يجعل من كلّ مهجّر ومشرّد مشروع قتيل وليس فقط كلّ مصاب أو مريض.
الجنون الإسرائيليّ مؤكّد. والكابوس الإنسانيّ محتّم. والتوتّر الإقليميّ مفتوح على كلّ الاحتمالات
توتّرات مع مصر
حذّر الأمين العامّ للأمم المتحدّة أيضاً من “تبعات إقليميّة” للعملية العسكرية على رفح. وقصد بذلك توتّر العلاقات بين إسرائيل ومصر الذي ارتفع منسوبه في الأسابيع الأخيرة لثلاثة أسباب رئيسيّة:
1- كلام إسرائيليّ عن ضرورة إدخال قوات عسكريّة “لتسيطر” على “محور فيلادلفيا” وتحاصر رفح من الجنوب. ومعروف أنّ هذا المحور، بموجب اتفاقية كامب دايفيد، هو منطقة عازلة بين الجانبين. وهو خطّ يمتدّ على طول الحدود بين مصر وغزّة (بطول 14 كلم) من البحر الأبيض المتوسط شمالاً حتى معبر كرم بو سالم جنوباً.
2- تصريحات إسرائيليّة متجدّدة عن تهريب أسلحة وذخائر لحماس من صحراء سيناء.
3- اتّهامات إسرائيليّة لمصر بمنع دخول المساعدات إلى غزّة. وقد شاركت واشنطن فيها. وقال بايدن منذ أيام إنّه أقنع الرئيس “المكسيكي” (ضعف في الذاكرة) السيسي بفتح المعبر لدخول المساعدات إلى غزّة.
أخذت مصر بجديّة دعوة نتنياهو جيشه إلى تحضير خطة للهجوم على رفح. فأرسلت أرتالاً من الدبّابات إلى الحدود مع غزّة. وأعلنت أنّ أخرى ستتبعها. بالنسبة لها دخول قوات إسرائيليّة “محور فيلادلفيا” هو خرق لاتّفاقية كامب دايفيد. وتهجير الفلسطينيين نحو مصر (وهي خطّة إسرائيليّة قديمة) خطّ أحمر لن تسمح بتجاوزه لأنّه يمسّ بالأمن القوميّ المصريّ ويهدّد بتصفية القضية الفلسطينيّة. وقد أبلغت القاهرة موقفها هذا لمن يعنيهم الأمر منذ بداية الحرب.
إقرأ أيضاً: إسقاط رفح للهدنة يخذل رغبة الحزب بالانكفاء جنوباً
فهل تنزلق الأمور نحو المحظور؟
الجنون الإسرائيليّ مؤكّد. والكابوس الإنسانيّ محتّم. والتوتّر الإقليميّ مفتوح على كلّ الاحتمالات…
لمتابعة الكاتب على X: