“لو كنت أعلم” هي الجملة الأثيرة لدى محور الممانعة الإيراني الممتدّ من أقصى إيران شرقاً حتى اليمن جنوباً، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين. بعد كلّ حرب، وكلّ نكبة، يخرج عضو من أعضاء هذا المحور على الناس شاهراً العبارة الأثيرة: “لو كنت أعلم”، فتختفي شعارات ملأن دنيانا منذ عقود أربعة، وأبرزها “زحفاً زحفاً نحو القدس”، و”الموت لأميركا، الموت لإسرائيل”، كما لو أنّها لم تكن. فماذا تُبطن هذه العبارة؟
في حديث مع قناة “سكاي نيوز” البريطانية، زعم عصمت منصور، أحد أصدقاء زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار، ورفيقه في سنوات سجنه، نقلاً عن صديقه، بأنّ الأخير “لم يتوقّع أن تؤدّي العملية إلى تعقيد الأمور إلى هذا الحدّ وإلى أن تصل إلى هذا الحدّ وتصبح عند هذا الحدّ من الخطورة. وقد أعطت إسرائيل كلّ الأسباب والأعذار لخرق جميع القواعد”.
أضاف منصور أنّ هدف العمليّة الاستراتيجيّ كان رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين من سجون إسرائيل، وهو ما يجعل السنوار “زعيماً للشعب الفلسطيني”.
وأردف منصور أنّ السنوار لم يكن يتوقّع أن تكون عواقب هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023 بهذه الخطورة، وأنّ الحسابات “لم تسِر كما هو مخطّط لها”، وأنّ ردّ فعل الإسرائيليين كان “خارجاً عن السيطرة ودون أيّ مبرّر”، و”الآن حصلنا على هذه النتيجة”، كما نقلت عنه “سكاي نيوز”.
زعم منصور أيضاً أنّ السنوار لو كان يعرف عواقب الهجوم “لَما خطّط أبداً لعملية بهذه الطريقة… لقد فكّر السنوار في جزء كبير منها”، ويبدو أنّ الكثير قد فاته.
“لو كنت أعلم” هي الجملة الأثيرة لدى محور الممانعة الإيراني الممتدّ من أقصى إيران شرقاً حتى اليمن جنوباً، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين
من لبنان إلى غزّة والعراق
الزعم في لغة العرب قرين الكذب. لكنّ زعم منصور هنا يبدو أقرب إلى الواقع وإلى مجريات الأمور ونتائج العملية التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي.
إلى الآن، أسفرت العملية التي تمكّنت فيها حركة حماس من قتل ما يقارب 1,200 إسرائيلي وأسر ما يناهز 250 أسيراً إسرائيلياً بين جنود ومدنيين ونساء ورجال، عن قتل ما يزيد على ثلاثين ألف ضحيّة فلسطينية وتدمير 70% من قطاع غزة على أقلّ تقدير، وتهجير ما يقرب من مليونَي فلسطيني إلى رفح عند الحدود مع مصر حيث يخيّم عليهم شبح الحرب والموت.
ما فات السنوار التفكير فيه، فات الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله، وقبله بعقدين من الزمن تقريباً. ففي 27 آب 2006، أي بعد أسبوعين من انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان إثر عملية قام بها الحزب لأسر عدد من الجنود الإسرائيليين عند الحدود مع فلسطين المحتلّة، قال نصر الله: “لو كنت أعلم أنّ عملية خطف جنديّين إسرائيليّين كانت ستؤدّي إلى جولة العنف التي استمرّت 34 يوماً لَما قمنا بها”. ولا يخفى على أحد أنّ حرب تموز أسفرت عن مقتل واستشهاد أكثر من 1,300 شخص عدا عن حجم الدمار المادّي والمعنوي.
ما فات السنوار وقبله حسن نصر الله، فات أيضاً كتائب “حزب الله العراقية” التي سرعان ما علّقت عمليّاتها العسكرية ضدّ القواعد الأميركية في العراق وسوريا إسناداً لحركة حماس، بُعيد أوّل تصريح أميركي بالردّ على قصف قواعدها والتعرّض لها. جرى ذلك أواخر شهر كانون الثاني الماضي.
“لو كنت أعلم” نهج وسلوك ومحور
ما يجمع هذه الفصائل الثلاثة أنّها تنتمي إلى محور تقوده إيران وتموّله وتسلّحه وتدرّبه، من إيران إلى اليمن. وهي، أي هذه الفصائل الثلاثة، ومن ينحو نحوها، كما يبدو من سلوكها وأقوالها لا تحسب حساباً لغدٍ ما.
أكثر من ذلك لا تفكّر إلا في ما بين أيديها من فائض قوّة لم يجلب على مرّ التجارب إلا الدمار والقتل.
بعد كلّ حرب، وكلّ نكبة، يخرج عضو من أعضاء هذا المحور على الناس شاهراً العبارة الأثيرة: “لو كنت أعلم”، فتختفي شعارات ملأن دنيانا منذ عقود أربعة
مع العلم أنّ زعيمة المحور ورأسه، أي الجمهورية الإسلامية في إيران، تعلم جيداً ما تقوم به، ولذا لا تقاتل بلحمها الحيّ إلا في اليوم التالي للحرب. قتالها دائماً يكون على طاولة المفاوضات لا غير، في الوقت الذي يعتصم فيه رؤساء حليفاتها الميليشيات بعبارة “لو كنت أعلم”.
“لو كنت أعلم” هذه ليست عبارةً عابرةً، بل هي مفتاح فهم هذا المحور العريض الممتدّ من إيران إلى اليمن، ويجتاح فيه طريقه الطويل هذا كلّ ما يمرّ به من دول وسيادات وقوانين ودساتير وشرعيّات.
المحور هذا بلا يوم تالٍ، بلا غد. لا خطّة عنده لليوم التالي ولا رؤيا ولا هدف. محور يقاتل من أجل القتال، ويحمل السلاح لحمل السلاح، فلا يجرّ سوى الخراب ولا يفعل سوى تدمير ما بقي من دول وكيانات في طريقه نحو اللاغد.
مَن مِن أعضاء هذا المحور والناطقين باسمه، قدّم كشف حسابٍ يوماً لحرب خاضها أو عملية شنّها أو ويلات جرّها على أهله وناسه وحلفائه، من العراق حتى اليمن مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين؟ من قدّم مراجعةً تخلو من عبارة “لو كنت أعلم”؟
يُفترض بمن يحمل سلاحاً، وليس أيّ سلاح، بل سلاح نوعيّ ومتطوّر، وعقيدةً وشعاراتٍ من قبيل “الموت لأمريكا” و”زحفاً زحفاً حتى القدس” وغيرهما، أن يكون مدركاً تمام الإدراك لما يريد وأن يعلم ماذا يفعل وكيف يفعل وإلى أين يقود مقاتليه ومحازبيه وأنصاره وبيئته الحاضنة.
ويُفترض أن يكون عارفاً بخبايا اليوم التالي لما يقوم به، وأن يقدّم فور وقف إطلاق النار جردة حساب وأن يضع نفسه موضع محاسبة.
إقرأ أيضاً: وطن الأزمات حدّق: أتذكر دولةً كانت هنا؟
لكن في بلادنا وفي مجتمعاتنا، خصوصاً تلك التي تحضن هذه الفصائل والميليشيات، الغد هو الجنّة، جنّة عرضُها السماوات والأرض، والهدف الشهادة والحور العين وأنهار من اللبن والعسل، بينما نغرق هنا نحن أهل الأرض الباحثين عن مستقبل لنا ولأولادنا ولبلادنا في أنهار من الدم ونستظلّ ركاماً ودماراً من أشعّة شمس إيران التي لا تشرق ولا تغيب.
لمتابعة الكاتب على X: