المقاومة الفلسطينية اليوم غيرها بالأمس لثلاثة عوامل:
1– أنّها حركات مسلّحة ومحاصَرة بالداخل، ولذلك تصبح انتحارية.
2– أنّها حركات إسلامية.
3– أنّها لا تحظى بالدعم من الحكومات لكنّ الجمهور معها.
وبسبب اجتماع هذه العوامل فإنّ الصراع على فلسطين يدخل مرحلةً جديدةً ستكون لها تأثيرات لا يمكن تقديرها في مدياتٍ واسعة. المخاوف والهواجس لا تفيد. إنّما لا بدّ من الحرص على صحّة التقدير من أجل صحّة التدبير.
هناك ثلاثة فروقٍ كبيرةٍ بين المقاومة الفلسطينية لإسرائيل في الستّينيّات وما بعد إلى الانتفاضة الأولى عام 1987- وما هو عليه الأمر اليوم.
– الفرق الأوّل، أنّه في المقاومة المسلّحة الأولى بدءاً بعام 1965 كانت الجبهات خارجية من لبنان أو من الأردن أو سورية، وكانت تواجه ثلاثة تحدّيات غير تحدّي العدوّ:
– الدول التي تنطلق منها والتي تخشى التورّط والتوريط في حربٍ مع إسرائيل.
– والتحدي الآخر انقسام جمهور البلد المعنيّ من حولها بين مؤيّدٍ ومعارض.
– والتحدّي الثالث العواقب الدولية.
وهكذا ما التزمت بدقّة باتفاقيات الهدنة غير سورية وكاد الأردن يتورّط لولا إخراج المقاومة عام 1970 بعد الحروب والمعارك الأصغر كما هو معروف. وكما هو معروف أيضاً فقد انقسم الجمهور اللبناني والأردني من حول المقاومة، وكان ذلك بين أسباب الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وهو الانقسام الذي تجدّد منذ عام 2006، وقد توسّع الآن وصار معظم اللبنانيين ضدّ توريط لبنان في الحرب. وترتّب على تجربة المقاومة الفلسطينية من لبنان التفكير الدولي بوضع قوات دولية على الحدود مع إسرائيل وبدأت التجربة عام 1978، ثمّ ازدادت ضرورتها بعدما منع السوريون المرابطون بلبنان الجيشَ اللبناني من المرابطة على الحدود بحجّة السماح للمقاومة (الحزب هذه المرّة) بحرّية الحركة، وأنّ نشاطها لا يحرج لبنان لأنّه ليس رسمياً! فلمّا وقعت الحرب عام 2006 أُرغم الحزب وحلفاؤه على قبول القوات الدولية بمقتضى القرار الدولي رقم 1701. والحزب يتذمّر منه ويريد تعديله أو الإضافة إليه اليوم على الرغم من أنّه لم يطبّقه.
هناك ثلاثة فروقٍ كبيرةٍ بين المقاومة الفلسطينية لإسرائيل في الستّينيّات وما بعد إلى الانتفاضة الأولى عام 1987- وما هو عليه الأمر اليوم
ابتعاد الدول عن المقاومة
– الفرق الثاني بين مقاومة الأمس واليوم فهو أنّها صارت قاصرةً على التنظيمات المسلّحة وما عادت الدول تتدخّل فيها. ففي عام 1974 عهد مؤتمر القمّة العربية إلى منظمة التحرير وحدها الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. بيد أنّ الأمور لم تصبح واضحة تماماً حتى عقد معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1973، ثمّ بدء الانتفاضة الأولى داخل الأرض المحتلّة عام 1987. وصحيح أنّ الانتفاضة سُمّيت وقتها انتفاضة الحجارة، لكنّ الدول العربية ما تدخّل منها أحد، وكان من أسبابها اختبار قوّة فتح ومنظمة التحرير بالداخل، فكان ذلك أيضاً بين أسباب اقتناع القيادة الإسرائيلية بصنع سلامٍ مع المنظمة كما تجلّى في اتفاقية أوسلو عام 1993. ومن المفروض أنّ الفرق الداخلة في منظمة التحرير ما استخدمت القوّة بالداخل منذ عام 1993، فصار استخدام القوة خاصّاً بالتنظيمات الدينية أو الإسلامية. وهذا هو الفرق الثالث كما سيأتي.
– الفرق الثالث بين مقاومة الأمس واليوم، وكلّ حركات المعارضة أو الاضطراب أنّها كلّها إسلامية سنّية أو شيعية. وقد غيّر ذلك المشهد تماماً ليس في فلسطين وحسب، بل وفي سائر الدول العربية المضطربة التي تسود فيها تنظيمات مسلّحة تتحرّك باسم الدين، ربّما باستثناء قوات الدعم السريع بالسودان لحسن الحظّ أو لسوء حظ الشعب السوداني.
مخاطر الحرب الدينية
إنّ أسلمة المعركة في فلسطين أو الحرب تواجه بالحرب الدينية التي يسعى إليها المتطرّفون في إسرائيل علناً. وبسبب كثرة الأهوال على الفلسطينيين شعباً وأرضاً ومقدّسات يزداد القائلون بالصراع الديني، ومن ذلك الخطابة في المساجد وفي التلفزيونات ووسائل الاتصال.
وللصراع باسم الدين آثاره القاسية والمتبادلة، وليس بداخل فلسطين فقط، بل وعلى مستوى علاقات الجمهور بالسلطات في سائر أنحاء العالمَين العربي والإسلامي. فالعامّة والجمهور يعتبرون أنّ المسألة مسألة مقدّسات، ولذلك على السلطات الحركة.
بين مقاومة الأمس واليوم، وكلّ حركات المعارضة أو الاضطراب أنّها كلّها إسلامية سنّية أو شيعية
وهؤلاء لا يأبهون بالحسابات وبالعلاقات الدولية. وقد لاحظنا ذلك في أحداث عام 2011 عندما استخدمت الحركات الإسلاموية الدين ضدّ الأنظمة باعتبار أنّ الإسلام هو الحلّ. وبعكس الجمهور العربي والإسلامي، من الصعب أن تحصل الحركات الدينية على دعمٍ قويّ ومستقرّ من الجهات العالمية كما هو معروف.
لذلك كلّه فإنّ حرب غزة الطويلة تغيّر المشهد تماماً ولثلاث جهات: العلاقات بين الفلسطينيين داخل المناطق المحتلّة وخارجها، والعلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل، وأمزجة الجمهور وميوله في العالم العربي تجاه قضية فلسطين وتجاه القضايا الأُخرى ذات العلاقة بالشأن العامّ، وبالعلاقات الدولية: هل يتصاعد التطرّف والعنف من جديد؟ وكيف يؤثّر ذلك على علاقات العرب بالعالم بعدما ظننّا أنّ التنظيمات المتطرّفة والعنيفة قد زالت أو تضاءلت؟
لننظر في الإشكاليات الثلاث الرئيسية في الزمن الجديد للصراع على فلسطين: هويّة الصراع، والعلاقات الدولية المحيطة، والأبعاد الإقليمية. ما عادت هويّة الصراع لدى الطرفين قومية أو وطنية خالصة، بل امتزجت بها أو غلبت عليها العوامل الدينية التي لا تؤمن بالحلول الأرضية أو الواقعية. وعلى سبيل المثال في 18/2/2024 اتّخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً بتقييد زيارة الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان، وفي ذلك تحدٍّ لحرّية العبادة لا يقبله الفلسطينيون ولو لم يكونوا إسلاميين! والإشكال الآخر: كلّ العالم يقول الآن بحلّ الدولتين، لكنّ الحكومة الإسرائيلية أصدرت قراراً بعدم قبول ذلك: فمن سيفرض ذلك على إسرائيل؟!
إقرأ أيضاً: فلسطين: إيران دخلت بغياب العرب… فمتى العودة؟
أمّا الإشكال الثالث فهو الإقليمي. فإيران من خلال تنظيماتها المسلّحة تشارك في الحرب. وفي حين أنّ الدوليّين لا يريدون توسيع الحرب، لا يفكّرون في دور لإيران في السلم: فما الذي يحصل لحماس بعد الحرب وهي فكرة وليست تنظيماً فقط؟ وأين يمكن التلاقي مع إيران لحفظ حياة الشعب الفلسطيني، وتجاوز الانسداد والاستقطابات العقديّة؟!
لمتابعة الكاتب على X: