وأخيراً وصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر، والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. بدأ قطار المصافحة والمصارحة، فمتى تبدأ المصالحة؟ ولماذا كانت السيّدتان أمينة إردوغان وانتصار السيسي أكثر حماسةً واندفاعاً خلال تبادل السلام في مطار القاهرة؟
واصلنا الكتابة بصبر وتكرار دون ملل عن ضرورة التقارب التركي المصري منذ عقد تقريباً. وأهمّية اللقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري عبد التفاح السيسي. وضرورة ذلك بالنسبة للبلدين على صعيد العلاقات والمصالح الثنائية والإقليمية. فتحقّقت بعض الآمال حتى ولو كانت في بداياتها من خلال زرع الغرسات وانتظار ثمارها بعد سنوات.
فقد انتقلت العلاقات التركية المصرية إلى مرحلة جديدة مع زيارة إردوغان العاصمة المصرية يوم الأربعاء المنصرم. نحن أيضاً وصلنا إلى بعض ما نريده عندما رأينا طائرة إردوغان تهبط في مطار القاهرة الدولي.
الأرشيف أصدق. عندما فتحت القاهرة لنا أبوابها في مطلع تشرين الثاني 2012 بدعوة من المرحوم سموّ الأمير طلال بن عبد العزيز للحديث عن أهمّية حماية العلاقات التركية المصرية بالنسبة للبلدين، كانت الأجواء ملبّدة والرياح جاهزة للعصف من كلّ صوب.
بعد ذلك التاريخ انقطعت الحماسة والزخم في العلاقة بين الإنتلجنسيا التركية والمصرية أيضاً. ولم نعد نلتقي إلا فوق بقع جغرافية محايدة أو فضائيات استضافتنا لدقائق. لنسأل الأصدقاء في الجانب المصري من أكاديميين وإعلاميين كانوا يتوافدون على تركيا قبل عام 2013 عن آخر زياراتهم لإسطنبول وأنقرة مثلاً.
السيسي في أنقرة بعد أسابيع
صحيح أنّنا تابعنا أمام العدسات قراءة نصوص رئاسية معدّة سابقاً بدقّة وعناية. وصحيح أنّنا لم نشاهد أيّ حوار بين الرئيسين والإعلاميّين الذين كانوا في “الاتحادية” خلال توقيع اتفاقية تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين. لكنّ ما جرى لم يمنع المتابعين والخبراء من وصف الزيارة بالتاريخية حتى لو لم نسمع ونشاهد العقود والاتفاقيات الثنائية والإقليمية بعد.
ما جرى جاء بعكس ما كان يتوقّع البعض ويريده في الداخل التركي. وهو زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أوّلاً. كما قيل في أواخر تموز المنصرم
هبوط طائرة إردوغان في مطار القاهرة هو بحدّ ذاته لحظة تاريخية. خصوصاً بعد 12 عاماً على آخر زيارة له إلى مصر عندما كان رئيساً للوزراء. قد تبدأ الترجمة خلال زيارة ردّ الواجب”. فقد أعلن الرئيس المصري نيّته زيارة أنقرة في نيسان المقبل. ومن انتظر أكثر من عقد ليشهد صور التقارب والانفتاح التركيَّين المصريَّين، سينتظر عدّة أسابيع أخرى. حينها سيرى الترجمة العمليّة لانطلاق مسار جديد في العلاقات بين البلدين.
في العلن هي زيارة تهدف إلى “بحث الخطوات التي يمكن اتّخاذها لتطوير العلاقات بين البلدين. وإلى تنشيط آليّات التعاون الثنائي الرفيعة المستوى. بالإضافة إلى القضايا الدولية والإقليمية، وفي مقدَّمها الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة”. هذا ما أعلنته الرئاسة التركية في بيانها.
لم يقُل الجانب المصري شيئاً مغايراً تقريباً: “من المقرّر أن يجري الرئيس عبد الفتاح السيسي مباحثات موسّعة مع الرئيس التركي رجب طيب إردودغان. وذلك لدفع الجهود المشتركة لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين. وللتباحث بشأن العديد من الملفّات والتحدّيات الإقليمية، خاصة وقف إطلاق النار في قطاع غزة”.
لم يَعُد مُهمّاً من يأتي أوّلاً
ما جرى جاء بعكس ما كان يتوقّع البعض ويريده في الداخل التركي. وهو زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أوّلاً. كما قيل في أواخر تموز المنصرم.
عبد الله غول كان آخر رئيس تركي يزور القاهرة في شباط 2013. الواقع على الأرض اليوم يقول شيئاً مغايراً تماماً. لم يعد مهمّاً من يأتي أوّلاً. ما دام رصد وتعداد اللقاءات والزيارات باتا صعبين على الجانبين. وما دامت اتصالات التهنئة المتبادلة بعد إعادة انتخاب الرئيسين تمّت وفق الأعراف الدبلوماسية. وما دام الجانب المصري لم يتأخّر في الوقوف إلى جانب تركيا بعد كارثة الزلزال في شباط العام المنصرم.
متطلّبات المرحلة على الصعيد الثنائي والإقليمي هي التي تفرض نفسها، وربّما هي التي سرّعت الحوار والانفتاح بين القيادات السياسية في البلدين.
القناعة التركية المصرية بضرورة طيّ صفحة القطيعة السياسية التي امتدّت إلى أكثر من عقد بسبب ارتداداتها السلبية على الطرفين هي التي أعادت تفعيل العلاقات
لكن لا يقلّ أهمّيةً حراكُ العديد من العواصم العربية والإسلامية باتجاه إقناع الطرفين بضرورة تفعيل هذا المسار. وللتأكيد على أهمّيته بالنسبة للعديد من دول المنطقة التي تنتظر إذابة جليد الخصومات. لتبدأ رحلة البحث عن رؤية جديدة تقود إلى تعاون تركي مصري لمعالجة الكثير من الأزمات العالقة.
ليبيا: تنسيق تركي مصري أيضاً
في الملفّ الليبي مثلاً، التفاهمات التركية المصرية كان هدفها حتى الآن الحؤول دون توتّر العلاقات الثنائية أكثر من ذلك. بهدف منع انعكاساتها السلبية على مصالحهما هناك. الهدف الآن هو تسريع جهود الانفراج لتسفر عن تشكيل حكومة موحّدة في ليبيا. وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية على أسس دستورية.
التنسيق التركي المصري في ليبيا يعني فتح الأبواب أمام تنسيق أوسع في القارّة الإفريقية ككلّ. وفي السودان وإثيوبيا والصومال تحديداً. لمعالجة الأزمات التي تعيشها هذه الدول أوّلاً. ثمّ لوضع استراتيجية للتعاون الاقتصادي في القارّة السمراء. فأفريقيا هي مفتاح العبور وصلة الوصل بين العديد من البحار والممرّات. وعلى رأسها قناة السويس وباب المندب. هناك البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط الامتداد البحري الاستراتيجي بالنسبة للبلدين ومصالحهما ثانياً.
الخطوط بين العراق والهند والصين
في العلاقات التجارية أيضاً رفع أرقام التبادل التجاري من 10 مليارات إلى 15 ملياراً خلال السنوات المقبلة. وهذا مهمّ طبعاً بالنسبة للبلدين. لكنّ ما ينتظرهما هو أكبر وأهمّ من ذلك بكثير. هناك خطط وبرامج معابر وخطوط تجارة إقليمية ودولية تعنيهما مباشرة. منها الخطوط الصيني والهندي والعراقي. وهناك خطّة نقل غاز شرق المتوسط، وتحديداً المصري، إلى أوروبا عبر الأراضي التركية. وهي كلّها خطط تدرّ مليارات الدولارت على مصر وتركيا.
تحدّث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن وجود مفاوضات لإمداد القاهرة بطائرات “بيرقدار” المسيّرة التركية الصنع. كان هذا في مطلع الشهر الحالي. واتفاقيات عسكرية من هذا النوع مهمّة طبعاً.
لكنّ أنقرة تريد الاستفادة أيضاً من تكنولوجيا صناعة الدبّابات المصرية وتوسيع رقعة التعاون في الصناعات العسكرية الدفاعية.
فما الذي سيحمله هذا التعاون العسكري للبلدين في الأعوام المقبلة إذا ما اكتمل بنجاح
التنسيق التركي المصري في ليبيا يعني فتح الأبواب أمام تنسيق أوسع في القارّة الإفريقية ككلّ. وفي السودان وإثيوبيا والصومال تحديدا
ترك الإجابة للخبراء العسكريين والأمنيّين أفضل هنا.
الخيارات الاستراتيجية.. والمعطيات الدولية
القناعة التركية المصرية بضرورة طيّ صفحة القطيعة السياسية التي امتدّت إلى أكثر من عقد بسبب ارتداداتها السلبية على الطرفين هي التي أعادت تفعيل العلاقات. لكنّ بين الأسباب أيضاً الكثير من التطوّرات السياسية والأمنيّة والاقتصادية في سياق إقليمي. وهي التي استدعت تحريك وتسريع هذا الحوار.
يأتي المسار الجديد نتيجة خيارات استراتيجية فرضها الكثير من المعطيات الإقليمية والدولية. لكنّ المصالحة الكاملة تحتاج إلى مصارحة شاملة بعد المصافحات الحارّة. فقد أخذت أنقرة ما تريد من مصر أيضاً. بعدما سجّلت اختراقات سياسية واقتصادية واسعة في العلاقة مع الرياض وأبو ظبي أبرز المشجّعين على التقارب التركي المصري. فالتفاهمات لا يمكن أن تكون تركية مصرية فقط، خصوصاً في المسائل الإقليمية التي تعني هذه العواصم.
في 12 أيلول 2020 كنّا نردّد أنّ عودة العلاقات التركية المصرية إلى سابق عهدها تحتاج إلى معجزة. حدثت المعجزة في 14 شباط 2024.
متى إكمال المصالحة؟
اكتمل أوّلاً تجاوز الحاجز النفسي في الحوار التركي المصري الجديد. بعدها أُنجزت المصافحة ولغة الجسد بنجاح على المستوى الثنائي والمتعدّد الأطراف. ثمّ انطلقت عجلة المصالحة من خلال العديد من الزيارات المتبادلة على أكثر من مستوى سياسي واقتصادي وعسكري. تتّجه الأنظار اليوم إلى إتمام المصارحة حول كلّ ما يريده كلّ طرف وما يمكن أن يقدّمه في ملفّات ثنائية وإقليمية تنتظر.
لم يكن من عناق في مطار القاهرة أو الدوحة أو نيودلهي. بل فقط مصافحة وشدّ على الأيادي بحرارة. السيّدتان أمينة إردوغان وانتصار السيسي كانتا أكثر حماسةً واندفاعاً.
إقرأ أيضاً: تقارب تركيّ أميركيّ: لائحة الخاسرين من القطبة الخفيّة؟
حاولنا العودة إلى الأرشيف لمعرفة ما الذي يعنيه تاريخ 14 شباط بالنسبة للأتراك والمصريين. وما إذا كان اختياره موعداً لزيارة إردوغان له مدلولات محدّدة.
تبيّن أنّ هناك أكثر من حدث سياسي وتاريخي مهمّ طبعاً. لكنّ ميول الإجابات في ضوء المواقف والتصريحات وأجواء الزيارة على المستويات الشعبية والإعلامية في البلدين تذهب أكثر باتجاه المحبّة في يومها.
لمتابعة الكاتب على X: