ضمن سياسة تصفير المشاكل مع المحيط، يمضي رجب طيب أردوغان في التقارب مع الولايات المتحدة الأميركية. بينما حطّت طائرته في القاهرة، كما كشف موقع “أساس” قبل أسبوعين، والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
بعدما حطّت طائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القاهرة، طاوياً 11 عاماً من الخلافات، التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأجرى جولة في مسجد الإمام الشافعي. وها هو يمضي قدماً في سياسة الانفتاح على خصوم الأمس.
فقد أحالت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على الكونغرس طلب المصادقة على صفقة المقاتلات التي تريدها تركيا، فانتهت مدّة الصمت الدستوري لمدّة 15 يوماً دون اعتراض لتبدأ المفاوضات الرسمية بين البلدين على التفاصيل. عمر الطلب التركي هو حوالي 5 سنوات، لكنّ العلاقات الدائمة التوتّر بين البلدين أبقته على الرفّ طوال هذه الفترة. ما تريده أنقرة هو شراء 40 مقاتلة من طراز إف – 16 وتحديث 79 مقاتلة أخرى. الضوء الأخضر الأميركي مهمّ، لكنّ ما تريده واشنطن إلى جانب 23 مليار دولار ثمن الطائرات مهمّ أيضاً. المشهد يوحي أنّ هناك سلّة ملأى بمقايضات سياسية وأمنيّة واقتصادية تتعلّق بملفّات ثنائية وإقليمية هدفها إطلاق اختبار جديد لمسار العلاقات بين الجانبين. ربّما جاءت الخطوة الأولى تركيّة، وهي تسريع الموافقة على عضوية السويد الأطلسية. لكنّ واشنطن لم تتأخّر في إشعال الضوء الأخضر أمام الطلب التركي.
بعدما حطّت طائرة أردوغان في القاهرة، طاوياً 11 عاماً من الخلافات، التقى السيسي، وأجرى جولة في مسجد الإمام الشافعي. وها هو يمضي قدماً في سياسة الانفتاح على خصوم الأمس
سيناريو الحلّ المحتمل
المهمّ هو ما الذي سيجري بعد الآن وكيف سيكون شكل السيناريو المحتمل:
– تنهي أنقرة مسألة تفعيل صواريخ إس 400 الروسية بشكل أو بآخر، فتوافق واشنطن على إعادتها إلى برنامج المقاتلة إف – 35 الذي غادرته بقرار أميركي قبل عامين.
– تفتح أميركا الطريق أمام العقود الماليّة والتجارية مع أنقرة التي تحتاج إليها في هذه الآونة فتبطىء تركيا من سرعة الانفتاح على موسكو وطهران وبكين لأجل تحسين العلاقات مع الغرب.
– تخفّف تركيا من تشدّدها حيال المطالب الأطلسية بشأن سباق النفوذ في حوض البحر الأسود والاستجابة لمطالب واشنطن الاستراتيجية في القوقاز والبلقان، فتحصل على دعم غربي أوسع في أخذ ما تريده في ملفّاتها الخلافية مع اليونان في إيجه وشرق المتوسط وإيجاد تسوية للأزمة القبرصية المزمنة.
الهدف هو العودة إلى المسار الكلاسيكي المعروف في العلاقات التركية الأميركية وتقليد أسلوب الحوار التركي الروسي في الفصل بين الملفّات وإعطاء الأولوية لملفّات التقارب والتنسيق مقابل ترك ملفّات الخلاف والتباعد تنتظر دورها.
لا تبدّل الدول مواقفها وسياساتها من أجل الحسابات الصغيرة والمصالح البسيطة، وخصوصاً في الحالة التركية الأميركية. هناك ما هو أهمّ وأكبر من مقايضة السويد مقابل إف – 16.
اختبرت واشنطن لخمس سنوات ما يمكن أن تفعله في المنطقة بدون تركيا فوصلت إلى قناعة بصعوبة أن تعوّضها إسرائيل وأثينا وبعض العواصم الأوروبية في ما تريد. واشنطن ترى أنّ عندها شركاء وحلفاء أقوياء في المنطقة، لكنّهم يناورون على حسابها ويريدون أكثر ممّا يقدّمون، ومع ذلك لا يملكون الثقل العسكري والاقتصادي والسياسي الذي تملكه تركيا في الإقليم.
من يعوّض مكانة تركيا الأميركية؟
ما الذي يمكن أن تقدّمه تل أبيب لأميركا في التصعيد العسكري مع روسيا على جبهات جديدة بعد خطوات التوسعة الأطلسية؟ ومن الذي بمقدوره مواجهة التصعيد الروسي أمام سيناريو الانفجار العسكري الأكبر في البحر الأسود مثلاً؟ وما الذي يعنيه السفير الأميركي في أنقرة جيفري فليك وهو يردّد أنّ الأسطول الجوّي التركي مهمّ بالنسبة لحلف شمال الأطلسي؟ وهل تستطيع أثينا الأطلسية بمفردها تحمّل أعباء وارتدادات أيّ تصعيد في شرق المتوسط مع روسيا وإيران؟ ومن الذي نجح في تحسين علاقاته مع دول العالم العربي في العامين الأخيرين على حساب واشنطن ومصالحها في الخليج والبحر الأحمر والقارّة السمراء؟
أن تسهّل واشنطن بيع أنقرة المقاتلات وسط كلّ هذا التوتّر التركي الإسرائيلي بسبب ما يجري في غزة فهذا يعني الكثير بالنسبة للطرفين التركي والأميركي. تل أبيب البديل الذي عوّلت عليه واشنطن خيّبت آمالها في أكثر من مكان، وآخر هذه الأماكن كان في قطاع غزة.
تصف الأصوات والأقلام الداعمة للحكم في تركيا ما يجري بأنّه “مرحلة تجديد الثقة في العلاقات التركية الأميركية”. لكنّ الأصوات المعارضة غاضبة وتنتقد وترى أن لا اختراق سياسياً كبيراً سُجّل في المسار الجديد للعلاقات، فـ”هناك 6 مقاتلات اشترتها تركيا من طراز إف – 35 تحتجزها أميركا بعد توتّر العلاقات إلى جانب مبلغ مليار ونصف مليار دولار حصّة تركيا في مشروع تصنيع هذه المقاتلة الحديثة. هناك أيضاً حصول اليونان على الجيل الخامس من المقاتلات بينما تبقى تركيا عند الجيل الرابع من إف -16″.
وصلت التفاهمات التركية الأميركية الأخيرة إلى قناعة بأنّ تركيا دولة أطلسية وحليفة لواشنطن وللغرب
تاريخ التوتر بين الطرفين
يعود تاريخ توتّر العلاقات هذه المرّة إلى صيف عام 2016 والمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وبعدما اتّهمت أنقرة الجانب الأميركي مباشرة بحصّته في الوقوف وراء ما جرى، والدليل أنّها استقبلت المحرّك الأوّل للمحاولة فتح الله غولن والعشرات من قيادات جماعته، كما تردّد القيادات السياسية التركية.
تفاعل التوتّر وانتشر بسبب تباعد الخيارات وتضارب المصالح في ملفّات سوريا والعراق وشرق المتوسط والتقارب التركي الروسي في البحر الأسود والقرم والقوقاز الذي قابله لجوء الإدارة الأميركية إلى تحريك أوراق ضغط على تركيا من بينها خطوات حظر التسلّح وإخراجها من برنامج المقاتلة إف – 35 بسبب تمسّك أنقرة بصفقة صواريخ إس -400 الروسية، هذا إلى جانب انفتاح أميركي واسع على أثينا وقبرص اليونانية. اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية في القرم والدور التركي المؤثّر بين طرفي النزاع عبر جهود الوساطة وتسهيل صفقة الحبوب الأوكرانية واستراتيجية التوسّع التي اعتمدها حلف شمال الأطلسي عبر قرار تسريع عضوية فنلندا والسويد، كانت مقدّمة لترك الجانبين الكثير من أسباب الخلاف والالتفات إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات. اندلاع الحرب في قطاع غزة في مطلع تشرين الأول المنصرم وقناعة واشنطن أكثر فأكثر بحاجتها إلى تركيا إلى جانبها في الشرق الأوسط والبحر الأسود والقوقاز والبلقان وفي قلب الأطلسي كقوة عسكرية مؤثّرة سرّعا خطط التواصل والحوار.
وصلت التفاهمات التركية الأميركية الأخيرة إلى قناعة بأنّ تركيا دولة أطلسية وحليفة لواشنطن وللغرب. أغضبت دول الحلف عندما اشترت صواريخ إس – 400 الروسية ورفعت مستوى التنسيق مع الكرملين، لكنّها خسرت صفقة المقاتلات الأميركية إف -35 والعديد من العقود التجارية والماليّة الضخمة.
خلطت تل أبيب أوراق واشنطن وحساباتها في المنطقة والعديد من العواصم العربية في حالة من الغضب. يد العون قد تكون تركيّة هذه المرّة
لائحة المتضرّرين والخاسرين
لن تكون انفراجة سريعة وواسعة في العلاقات التركية الأميركية حتماً، وستتقدّم وسط الحفر والمطبّات وحقول الألغام أحياناً، لكنّ ما جرى أخيراً سيقلق أكثر من لاعب متضرّر وخاسر نتيجة التقارب بين أنقرة وواشنطن:
– معادلة “خذ وهات” هي التي قرّبت من جديد بين أنقرة وواشنطن. خذ المقاتلات إف -16، وعد إلى مشروع المقاتلة إف – 35 مقابل سحب منصّات الصواريخ الروسية إلى المستودعات أو إرسالها إلى دولة ثالثة. روسيا في مقدَّم الخاسرين.
– فرنسا كانت بين من يقفون وراء سياسة تحريض واشنطن والاصطفاف الإقليمي ضدّ تركيا في سوريا وشرق المتوسط وإيجه وشمال إفريقيا بعدما تضرّرت مصالحها وتراجعت حساباتها هناك. باريس بين الخاسرين أيضاً.
– أميركا استثمرت عسكرياً في اليونان لأنّها وصلت إلى طريق مسدود مع حكومة العدالة والتنمية، والآن تذهب باتجاه مغاير نحو صفحة جديدة من العلاقات مع أنقرة. أثينا بين الخاسرين أيضاً.
– صعّدت تل أبيب ضدّ أنقرة بسبب مواقفها من الحرب على قطاع غزة. واشنطن تنتقد التصلّب والتشدّد الإسرائيليَّين اليوم وتلوّح بمواقف جديدة لا ترضي إسرائيل وتأخذ بعين الاعتبار ما تقوله تركيا. تل أبيب بين المتضرّرين أيضاً من التقارب التركي الأميركي.
– كانت المشكلة بالنسبة لأنقرة في وقوف العديد من العواصم العربية، وتحديداً القاهرة وعواصم خليجية، في الجانب الآخر من التحالفات والاصطفافات الإقليمية. تغيّر المشهد اليوم والخاسر هنا هو إيران، شئنا أم أبينا.
– الانفراجة المرتقبة في العلاقات التركية الأميركية ستتمدّد في أكثر من اتجاه جغرافي وسياسي واقتصادي. وربّما هذا ما سيقلق الصين أيضاً حتى لا نقول إنّها بين الخاسرين بشكل مبكر.
إقرأ أيضاً: علاقات مصر وإسرائيل على حافة الهاوية؟
تحوّل العدوان الإسرائيلي على غزة إلى فرصة للتقريب بين واشنطن وبين ما تقوله وتريده أنقرة. خلطت تل أبيب أوراق واشنطن وحساباتها في المنطقة والعديد من العواصم العربية في حالة من الغضب. يد العون قد تكون تركيّة هذه المرّة.
التصعيد الإيراني في البحر الأحمر وتحريك جماعة الحوثي على هذا النحو في الأسابيع الأخيرة شكّلا سبباً إضافياً ساهم في إقناع أميركا بالتنبّه من جديد للدور والموقع التركيَّين.
من يفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية مهمّ، لكنّ الأهمّ هو أنّ كلا الحزبين المتنافسين، كما تقول المواقف والتصريحات، يريد إعادة قراءة الدور التركي الإقليمي بنبرة إيجابية انفتاحية هذه المرّة.
لم يحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة في مطلع الأسبوع كما كان يتوقّع البعض. قد يكون السبب هو الأنباء التي تتحدّث عن اقتراب موعد افتتاح مصنع تركي أوكراني مشترك على مقربة من كييف لإنتاج المسيّرات التركية، كما نُسب إلى رئيس شركة “بايكار” خلوق بيرقدار الذي يقول إنّ الإنتاج سيبدأ في عام 2025. قد تكون هذه هي القطبة الخفيّة وكلمة السرّ في أسباب إرجاء الزيارة. تصريحات سياسية في موسكو تعقّب على هذه المعلومات بأنّ مهاجمة المصنع هو حقّ مشروع للقوات الروسية ما دامت الحرب الروسية الأوكرانية قائمة. استهداف المكان سيعقّد العلاقات التركية الروسية حتماً. لكنّ السؤال هو: كيف سيكون موقف الحلف الأطلسي حيال سيناريو من هذا النوع؟
لمتابعة الكاتب على X: