الادّعاء على فارس سعيد: مقدّمة الفوضى الأمنية

مدة القراءة 8 د


ما كنتُ أسخر عندما أسمّي حزب الله أو زعيمه في بعض المقالات: الحزب المعصوم، والزعيم المعصوم. فهو منذ الثمانينات من القرن الماضي لا يعترف بخطأ ولا يعتذر عن تصرّف، بل ويتّهم كلَّ من ينتقده بشيءٍ، ولو كان أمراً ضئيلاً، بسوء النية والعمل لصالح الصهاينة. وإذا كان لطيفاً جداً اتّهمه بالعمل للأميركيين! وكانت أعذاره حتّى العام 2006 السريّة التي يستلزمها النضال ضدّ الاحتلال، وهو الأمر الذي لا يسمح بكشف الخلفيات أو التفاصيل لهذا المسألة أو تلك، فيتفهّمها أنصار المقاومة والثلاثية المباركة، وإذا تجاوزوا الصمت إلى التعبير عن التأييد رغم فظاعة (الظواهر)؛ فإنّ الحزب أو زعيمه مستعدّون حتى للثناء عليهم وشكرهم، كما شكر الزعيم الجنرال عون لتأييده في حرب العام 2006، وفي احتلال بيروت عام 2008.

بعد العام 2006 والانتصار الإلهي الذي أُنجز على أيدي أبطال المقاومة، صارت العصمة مطلقة، وما عاد بمقدور لبناني على وجه الخصوص أن يذكر الزعيم والحزب إلاّ بالتعظيم والتأييد وأناشيد الخلود، وأياً يكن الموضوع الذي ذُكر الحزب في سياقه، ولو كان سياسياً بحتاً أو حتى سؤالاً عن اختفاء فلان أوعلاّن في مسألة تتعلّق بالكبتاغون!

ولماذا نبعُدُ في التاريخ والأحداث؟

فقبل أشهر تحدّث الزعيم عن الاقتصاد المشرقي وضرورات  اللجوء إليه، ولأنّ حسّان دياب وحكومته الإنقاذية العالية الكفاءة خشيت من فوات أو تفويت هذا المقترح العبقري وسط الانهيار الاقتصادي وظهور مساوئ الرأسمالية الاستغلالية، واكتشاف المعصوم ووليد جنبلاط في الوقت نفسه أهمية الزراعة، واقتصاد تبادل السِلَع بدون الحاجة للدولار “الصهيوني”، فإنّ حكومة دياب سارعت للاجتماع، وتأييد التوجه إلى الشرق، وبالإجماع!

بعد العام 2006 والانتصار الإلهي الذي أُنجز على أيدي أبطال المقاومة، صارت العصمة مطلقة، وما عاد بمقدور لبناني على وجه الخصوص أن يذكر الزعيم والحزب إلاّ بالتعظيم والتأييد وأناشيد الخلود، وأياً يكن الموضوع الذي ذُكر الحزب في سياقه، ولو كان سياسياً بحتاً أو حتى سؤالاً عن اختفاء فلان أوعلاّن في مسألة تتعلّق بالكبتاغون!

طوال ثلاثين عاماً وأكثر على تعملُق الحزب وزعيمه في وجه اللبنانيين الأقزام، ما ترك الشباب “فضيلةً” إلاّ وارتكبوها في لبنان وسورية، وإلى الاتجار بالممنوعات، والسيطرة على المرافق والمؤسسات، والدخول إلى مغاور الفساد.. إلخ، باستثناء الفضيلة / الرذيلة التي ارتكبوها قبل ثلاثة أيام عندما ادّعوا على الدكتور فارس سعيد، وعلى وسيلةٍ إعلامية بتُهم الافتراء وإثارة النعرات الطائفية، ولا أدري ماذا وماذا أيضاً. الحزب نفسه يلجأ إلى القضاء بشخص أحد نوابه؟!

المفروض، وإن يكن الأمر غريباً واستثنائياً وجديداً، ويحدث لثاني مرّة (أوّل مرة كان الادّعاء على السيد علي الأمين من جانب محامين قريبين للحزب وأيضاً بإثارة النعرات الطائفية ومخالفة قواعد المذهب الجعفري، والمفروض أنّ القاضية غادة عون هي التي كان عليها أن تكتشف وتُدين هذه المخالفات للمذهب!) – المفروض أن يكونَ ذلك أمراً جيداً. فبدلاً من القتل أو التشهير والتهديد (وجيوشهم الإلكترونية تفعل ذلك منذ سنتين مع فارس سعيد ومع غيره)، يمكن اللجوء إلى القضاء، ولهم نفوذٌ كبيرٌ فيه. وقبل أشهر أصدر قاضٍ صوراني حكماً ضد السفيرة الأميركية، فتبسّم بعض الناس، وحاجج آخرون بأنّ ذلك ليس من صلاحياته. لكنّ فريقاً ثالثاً، وأنا منه، ذهب إلى أنّ ظاهرة استخدام القضاء، وإن كان فيها تسييس وتحيز، إلا أنّها تبقى أكثر إنسانية من الأساليب الأُخرى التي اعتاد الحزب على استخدامها!

ما ترك الشباب “فضيلةً” إلاّ وارتكبوها في لبنان وسورية، وإلى الاتجار بالممنوعات، والسيطرة على المرافق والمؤسسات، والدخول إلى مغاور الفساد.. إلخ، باستثناء الفضيلة / الرذيلة التي ارتكبوها قبل ثلاثة أيام عندما ادّعوا على الدكتور فارس سعيد، وعلى وسيلةٍ إعلامية بتُهم الافتراء وإثارة النعرات الطائفية

المهم بعد الاستغراب الشديد لذهاب الحزب إلى  القضاء، نقول إنّ لاستغرابنا سببين:

– الأول: أنّ الحزب ما احترم منذ ثلاثين عاماً وأكثر القضاء ولا القانون ولا لجأ إليهما. بل إنّ هناك كثيرين من المرتكبين من أبناء طائفته أو من غيرها، وسّطوه لتبرئتهم، فصاروا غير مرتكبين. ثم إنّنا نعرف جميعاً حالات ستر فيها الحزب وجهه، ودبّر قضايا لخصومه عبر المؤسسات القضائية أو الأمنية. وهناك قضايا منها العمالة لإسرائيل، ترك أصحابها يمرُّون منها ويفلتون من المحاسبة، مثل عامر فاخوري، وقال بعدها إنّه لم يوافق أو لم يعرف!

– السبب الثاني: للاستغرب علتُهُ فساد القصّة من أصلها. فأنا أُتابع بيانات وتصريحات الدكتور فارس سعيد من سنوات، وأشترك معه في إصدار بعضها، وهي بياناتٌ سياسيةٌ واضحة المغزى والمرمى والحقيقة: رفع الوصاية الإيرانية عن لبنان، التوقف عن الخروج على القرارات الدولية وبخاصّة 1701 و1559، التوقف عن توريط لبنان في حروب المنطقة، التخلّي عن السلاح غير الشرعي، الخروج من المرفأ والمطار، والتوقف عن تسهيل التهريب عبر الحدود مع سورية، تسليم عضو الحزب سليم عياش إلى القضاء الدولي بعد أن أدانته المحكمة الدولية بقتل الرئيس رفيق الحريري وحكمت عليه. وهذه جميعاً ليست اتهامات بل هي وقائع صحيحة. ثم أين هو التحريض الطائفي وإثارة النعرات؟ هذه كلها ارتكابات سياسية وجنائية ثابتة من وجهة نظرنا على الأقلّ. وهي أضرّت وتضرّ بالمصلحة الوطنية، وسبب من أسباب الخراب الحاصل في لبنان.

الدكتور سعيد لا يذكر الطائفة والطائفية على لسانه، ونصف الذين يوقّعون على بياناته هم من الشيعة، دون أن يُحسُّوا أنّهم بذلك يهينون طائفتهم. بل إنّ الإهانة الحقيقية للطائفة هي في توريط إيران والحزب للطائفة الشيعية، والتي يصرّ الحزب على التحدّث باسمها، في كلّ هذه المصائب التي أنزلت خراباً هائلاً بالحياة الوطنية، وبالدولة اللبنانية.

إنّ الذي أثار ويثير النعرات الطائفية والمذهبية هو احتلال بيروت عام 2008، والخروج بمئات الموتوسيكلات بمناسبة وبدون مناسبة إلى شوارع المدينة في صورة الغزاة الفاتحين، والصراخ “شيعة شيعة” في وجه آلاف المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع بعد انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019، وتكسير عظامهم وإطلاق النار على أعينهم.

لماذا لم يلجأْ أحدٌ منا إلى القضاء اللبناني العظيم في وجه كلّ هذا؟

لأننا اعتبرنا ذلك عبثاً بالنظر لما فعله زعيم الحزب والرئيس بالقضاء الضعيف أصلاً! وإذا كان لا بدّ من رهانٍ أخير: إذا كان القضاء مستقلاً فسيرفض الدعوى على الدكتور فارس سعيد، لأنّه لا جريمة ولا جنحة في تصرّفات المعارضين السياسيين، ما داموا يتجنّبون الحساسيات الدينية والشخصية. وهذان الأمران ما فعلهما فارس سعيد أبداً، فهو يتجنّب الشخصي دائماً، ويتجنّب سخافات الاتهامات الطائفية! 

الدكتور سعيد لا يذكر الطائفة والطائفية على لسانه، ونصف الذين يوقّعون على بياناته هم من الشيعة، دون أن يُحسُّوا أنّهم بذلك يهينون طائفتهم

لماذا لجأ الحزب إذن إلى القضاء ضد الدكتور فارس سعيد؟

لجأ إلى القضاء للتحذير والتهديد. ففارس سعيد تحدّاهم في قضية أراضي بلدة لاسا (حيث هناك خلاف على ملكية أراضي بين شيعة وبين موارنة). وفارس سعيد يواجههم كلّ يوم في الفضائيات والبيانات والاجتماعات الحاشدة بمسائل السلاح غير الشرعي، والخروج على الدستور والقانون. وفارس سعيد مثل معظم اللبنانيين خائفٌ منهم على لبنان خوفَه من رئيس الجمهورية الذي يدعوه للاستقالة. وبعد التحذير والتهديد لكي يسكت، هناك أسبابٌ أخرى فيما أحسب ذكر بعضها الدكتور سعيد في الفضائيات:

– فمدير الأمن العام، وهو قريبٌ من الحزب، أنذر اللبنانيين بحصول اغتيالات.

– وكذلك فعل مدير أمن الدولة الموالي لجبران باسيل.

– فإذا حصل لأحد المعارضين شيء في القريب، فيستطيع الحزب أن يقول: نحن لا دخْل لنا، ونلجأُ في مواجهة خصومنا إلى القضاء وليس أكثر!

– وإلى هذا وذاك يُشاع أنّ محاولةً جرت لاغتيال الأمين العام ذكرتها صحيفة كويتية.

– كما ذكرت الصحف أنّ الوزير جبران باسيل يخشى الاغتيال، ولذلك يشدّد الحراسة على نفسه، ولا يخرج من منزله. وكل الذين تعرّضوا للاغتيال منذ العام 2004 من 14 آذار، وما منهم أحدٌ من 8 آذار.

إقرأ أيضاً: سعيد لـ”أساس”: لا “كبرى” لمعادلة قوامها السلاح مقابل الدستور

إنها ألعابٌ بالغة الخطورة. لكنّ الذين يلعبون بمصائر لبنان واللبنانيين دونما شفقةٍ ولا رحمة ولا مسؤولية، يسهل عليهم اللجوء إلى القضاء وإلى ما هو “أفظع” من القضاء! ولذلك فأنا أتوقع أن يدّعي الحزب على معارضين آخرين؛ وأن يدّعي فخامة الرئيس أيضاً على فارس سعيد لأنّه يطالبه بالاستقالة، ولأنّه لا يعشق جبران باسيل… ولله في خلقه شؤون!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…