يغلب على تعليقات اللبنانيين على وسائل التواصل بشأن المعركة الرئاسية الأميركية الطابع الطائفي، لناحية التحيّز لأحد المرشّحين، أو كقراءة عامة للمشهد وتأثيراته.
المعركة الكبرى التي تشغل العالم بأسره، وتطبع توجّهاته وتؤثّر في اقتصاده وأمنه، لا تخرج بالنسبة لمعظم المعلّقين عن كونها صراعاً سنياً شيعياً بين “أبو عمر ترامب” السني و”أبو علي بايدن” الشيعي.
عندما يحاول البعض إخراج المسألة من هذا السياق وربط موقفه من أحد المرشّحين بعنوان سياسي أو ثقافي، فإن التعليقات التي تنهال عليه من أصدقائه ومن روّاد الفيسبوك، تعيد توجيه النقاش والانقسام إلى العنوان الطائفي، وما ينمو على ضفافه من قراءات وتصوّرات.
يجدر لفت الانتباه إلى أنّ العنوان الطائفي المنقسم بين عنواني السنة والشيعة، لا يتطلّب أن يكون المنتمون إليه والمشاركون فيه سنة وشيعة، فهو قد تحوّل إلى بنية عامة، وإلى نظام رمزي ودلالي، ينمو بقوّة العدد والكثرة والشيوع، بحيث لا يمكن للتعبيرعن موقف ما من الانتخابات الأميركية على وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان، النجاة من أسره أو رفض الخضوع للتصنيف الذي يفرضه.
عندما يحاول البعض إخراج المسألة من هذا السياق وربط موقفه من أحد المرشّحين بعنوان سياسي أو ثقافي، فإن التعليقات التي تنهال عليه من أصدقائه ومن روّاد الفيسبوك، تعيد توجيه النقاش والانقسام إلى العنوان الطائفي، وما ينمو على ضفافه من قراءات وتصوّرات
كلّ من يحاول تقديم قراءة فكرية سياسية للموضوع، يبدو وكأنه خارج اللحظة، ويتحدّث مع نفسه. الجمهور لا يلتقط سوى ما يصنعه أو يوحى إليه من خطاب يعيد إنتاج عالم الانتخابات الرئاسية الأميركية افتراضياً على هيئة ساحة حرب طائفية.
يرى السنّة الافتراضيون في ترامب الرئيس الذي سيخلّصهم من إيران وسطوة حزب الله. تظهر هذه الصيغة الغالبة في عدد كبير من التعليقات، وتتكرّر كتبرير للانحياز له، وتُربط المسألة بموقع السنّة في البلد، واختلال الموازين فيه لغير صالحهم.
فوز ترامب وفق التصوّر السنّي، من شأنه إنتاج الغلبة السنية المشتهاة، وافتتاح زمان نهاية سيطرة وتسلّط حزب الله.
يعتبر هؤلاء أنّ قوة أميركا وتفوّقها التكنولوجي والعسكري، سيكون في خدمتهم، وسيسخّر لمصلحتهم. لعلّ هذا الهذيان الذي أطلقت شرارته موجة العقوبات المتصاعدة ضد إيران وحزب الله التي فرضتها إدارة ترامب، وموجة العداء الكبير بينها وبين منظومة الحكم الإيرانية، قد وجدت لحظتها القصوى مع الأمل بإعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة.
انتقل الهذيان الفيسبوكي والتويتري السني مع احتدام معركة الرئاسة إلى مرحلة الذروة، لأنّ فكرة فوز ترامب باتت بمثابة الحلم السني الذي يوازي في شبكة دلالاته وعمقه الحلم الأميركي بكل ما يحاط به من تخيّلات وأوهام.
تجاوز الحديث حدود الأمل في تغيير المعادلات القائمة، وبات يركّز على قلبها. إذ ظهرت تعليقات كثيرة تربط بين فوز ترامب وبين نهاية النظام الإيراني. وبدأ كثيرون يرسمون بتعليقاتهم خريطة جديدة للمنطقة تتقلّص فيها مساحة تأثير إيران وتنعدم، ويصبح لبنان جنّة الأزمان، ويعود إلى المرحلة الذهبية في السبعينات وغير ذلك.
ذهبت بعض التعليقات إلى توقّع أنّ سلاح حزب الله سوف “يُباع في سوق الخردة”، وغير ذلك من سياقات، يجمع بينها قاسم مشترك واحد وأساسي، هو انطلاقها من بُعد طائفي.
ناشطون شيعة بدورهم يعيدون في معاركهم الفيسبوكية نصرة المرشح “أبو علي بايدن” كـ”شيعي”، في تكرار لخطاب الغلبة الفجّ. يعتبرون أنّ “الصوت الشيعي” كان له الأثر الكبير في صناعة الرئيس، وخصوصاً في ولاية “ميتشيغين” كما تُلفظ وتُكتب على صفحات التواصل الاجتماعي في إشارة توحي إلى اللهجة الجنوبية الشيعية من ناحية، وتتضمّن سخرية من الخصوم من ناحية أخرى. وهي الولاية التي يسكنهامئات آلاف اللبنانيين، ومعظمهم من الشيعة الجنوبيين.
تجاوز الحديث حدود الأمل في تغيير المعادلات القائمة، وبات يركّز على قلبها. إذ ظهرت تعليقات كثيرة تربط بين فوز ترامب وبين نهاية النظام الإيراني
يؤمن فرسان الفيسبوك والتويتر من الشيعة أنّ انتصار المرشح الديمقراطي سوف يعيد تمكين زمن غلبة إيران في المنطقة، ما سينعكس إيجاباً على موقعهم في البلد لناحية الاعتراف بسلطتهم عليه بشكل نهائي ولا يقبل الجدل. تركّز التعليقات والتغريدات على فكرة النصر كما شاعت وانتشرت مؤخرا في الوسط الشيعي، أي بالنظر اليها على أنّها دائمة، ومستمرّة، وإلهية، ولا انقطاع زمنياً فيها.
العقوبات لم تكن سوى وقود لهذا النصر، ولا يتوقّع زوالها وحسب، بل يعتبرون أنّ فوز بايدن يعني أنّ أميركا نفسها صارت في جيب إيران الصغير، وأنّ ذلك يعني أنها قد باتت دولة عظمى، بل الدولة العظمى الفعلية والوحيدة لأنّها تمتلك جمهوراً لبنانياً قادراً على قلب المعادلات الانتخابية في قلب أميركا، وإيصال رئيس على هواها، سيكون مديناً لها بدين ضخم لا يمكن ردّه سوى بالتحالف معها، ودعمها في جميع الميادين.
اللافت أنّ الجمهور الافتراضي الشيعي لا ينطلق في مقارباته العمومية هذه من بنات أفكاره، بل يلتقط الإيحاءات والإشارات التي يطلقها كتاب وصحافيون يدينون بالولاء للثنائية الشيعية الحاكمة، ويعيدون التأكيد عليها في تعليقاتهم، ما يعني أنّ الأمور خاضعة لحملة منظّمة وموجّهة، لا مجال فيها للارتجال أو التلقائية والعفوية.
إقرأ أيضاً: الحزب يفضّل بايدن.. ويؤجّل الاحتفال
الفرق بين مقاربة الخطابين السني والشيعي للمعركة الرئاسية الأميركية على وسائل التواصل الاجتماعي، يتجلّى في أنّ السنة ينطلقون من الخوف والإحساس بتبدّد المكانة، وضياع الموقع، وغياب الزعامة القوية. ينعكس كلّ ذلك في تعليقات تمنح فوز ترامب طابعاً خيالياً وهمياً بشكل أشبه بمنطق السحر حيث تنقلب الوقائع بطريقة لا تخضع للواقع ولا للمنطق.
المقاربة الشيعية تنطلق من التوجيه، والتحكّم، والضبط، والشعور بالتفوّق والقوة. فيراكم جمهورها طبقات كثيفة من التعليقات التي تقرأ الحدث الرئاسي الأميركي بوصفه فصلاً جديداً من فصول انتصارات الممانعة، حيث تغلب ظاهرة التأكيد على عالمية القوة الشيعية وقدرتها المطلقة على حسم المعارك في ساحات بيروت وكذلك في ساحات واشنطن.