في سابقة غير معهودة، سمح حزب الله بإزالة “مخالفة شيعية” من بين جملة مخالفات شيّدت على الأراضي التابعة للكنيسة المارونية في بلدة لاسا بقضاء جبيل.
فبشكل مفاجىء، سُمح بدخول القوى الأمنية خلال اليومين الماضيين، فأزالت المبنى الجاهز الذي شيّده شبّان من آل مقداد، ضمن أملاك المطرانية المارونية، فيما بقيت الأعلام والرايات ذات الدلالات الدينية والحزبية في الموقع. وهو أمر يمكن اعتباره تنازلاً من حزب الله.
إقرأ أيضاً: سعيد لـ”أساس”: لا “كبرى” لمعادلة قوامها السلاح مقابل الدستور
هذه الحادثة أثارت امتعاض أهالي لاسا، والكنيسة، وفعاليات المنطقة، لكنّ الأغرب هو توقيتها، والمبادرة التي قام بها الحزب لإزالة هذه المخالفة، وكأنّ في هذه “الحركة” رسالة ما أراد الشيعة إيصالها إلى الرأي العام المسيحي؟
اللافت أنّ حادثة لاسا تزامنت مع حادثة ثانية هي الفتاة المحجّبة التي قيل إنّ مستشفى جبل لبنان رفض تدريبها بسبب حجابها. وبعدما نفت إدارة المستشفى بطريقة غير مباشرة، وأدانت حركة “أمل” ما جرى معها، بقي حزب الله صامتاً رغم امتعاض جمهوره. لكن بدا واضحاً أنّ الفالق “الشيعي – الماروني” تحرّك في مكانين، واحد له علاقة بالحجاب، وآخر بالتماس العقاري بين الطائفتين.
قضية “لاسا” ليست وليدة اللحظة. فالمطرانية كانت قد أجرت في العام 1939 مسحاً اختيارياً لأكثر من 5 ملايين متر مربع في المنطقة. أما الإشكالية حالياً فتنحصر بـ 3.5 مليون متر مربع تنتظر المسح النهائي على يد لجنة المسح المكلّفة من القاضي العقاري ووزارة المالية
صمت الحزب في الموضوع الأوّل، استكمله بتراجع سريع في الثاني. فبدا أنّه لا يريد السماح بمزيد من الهزّات “الشيعية – المارونية”. فهذا يساهم في تباعد جمهوري حزب الله والتيار الوطني الحرّ، في لحظة سياسية صعبة يهتزّ خلالها تفاهم “مار مخايل” الموقّع في العام 2006 بين الطرفين. وعلى وقت ترسيم الحدود مع إسرائيل من خلال وفد عسكري – مدني، رفض الحزب الجانب المدني منه، فأصرّ الرئيس ميشال عون عليه، في رسالة ودّ إلى الولايات المتحدة الأميركية، عشية فرض عقوبات على صهره جبران باسيل.
كذلك يعاني الحزب من خلاف ويمارس قطيعة في العلاقة مع البطريرك الماروني بشارة الراعي، اعتراضاً على تسويقه لـ “الحياد” ومطالبته بـ “تحرير الشرعية” من سلاح الحزب. وبعد تفجير المرفأ، بدا أنّ هناك تغييراً في الوعي المسيحي، يحمّل حزب الله مسؤولية تفجير “بيروت المسيحية” قبالة المرفأ. لذا، فإنّ الحزب في غنى عن تصعيد التوتّر مع الموارنة وكنيستهم وجمهورهم.
لاسا: تهدئة شيعية
قضية “لاسا” ليست وليدة اللحظة. فالمطرانية كانت قد أجرت في العام 1939 مسحاً اختيارياً لأكثر من 5 ملايين متر مربع في المنطقة. أما الإشكالية حالياً فتنحصر بـ 3.5 مليون متر مربع تنتظر المسح النهائي على يد لجنة المسح المكلّفة من القاضي العقاري ووزارة المالية. لكنّ المسح ما زال معلّقاً، على الرغم من تكرار التعدّيات والإشكالات على هذه المساحة منذ العام 2000.
وبينما ذهب المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، نحو الحلّ العشائري، مؤكداً أنّ قضية لاسا “لا يمكن حلها عن طريق القوى الأمنية أو بالقوّة، بل عبر صيغة مقبولة بين البطريركية المارونية والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، مع إبقاء مرجعية اللجنة التي تمّ تشكيلها زمن الوزير السابق مروان شربل، كأساس وسطي”، فإنّ للمطرانية المارونية رأياً آخر، وهو اللجوء إلى القضاء تحت عنوان: “ليأخذ كلّ ذي حقّ حقّه، ومن لديه وثيقة فليظهرها”.
النائب السابق فارس سعيد، المواكب لهذه الملف، وهو يقع ضمن نطاق قضاء جبيل الذي كان نائباً عنه، أكّد في حديث لـ “أساس” أنّ ما حدث في لاسا هو “إزالة مخالفة عقارية من بين عشرات المخالفات التي لا تزال قائمة”، سائلاً: “لماذا سهّلت اللجنة الأمنية التابعة لحزب الله وصول القوى الأمنية الشرعية لإزالة هذه المخالفة بناءً على إشارة من مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون؟”.
وفق سعيد فإنّ ما يحصل هو تلاعب بالاستقرار العقاري في لبنان الذي تأسس مع أعمال المساحة والتحديد خلال مرحلة الانتداب، واستكمل بناؤه خلال الجمهورية الأولى وخلال الجمهورية الثانية بعد الحرب الأهلية. والمسّ بالاستقرار العقاري هو بمستوى خطورة المسّ بالاستقرار المالي
يجيب سعيد على السؤال الذي يطرحه: “المناخ العام في لبنان دفع حزب الله للمساعدة في إزالة هذه المخالفة، للقول إنّه لا يسطو على أراضي المسيحيين كما يتردّد، بينما الحقيقة أنّ الخلاف العقاري في لاسا يتجاوز هذه الحادثة. والموضوع ليس موضوع بيت جاهز، أو إزالة مخالفة. مساحة لاسا 8 مليون متر مربع، تملك الكنيسة منها حوال 6 مليون متر مربع، والأهالي يملكون حوالي مليوني متر مربع. غالبية أهالي لاسا هم من الطائفة الشيعية. أما المسيحيون فهم أقلية وفدوا إليها في العام 1863 عندما تمّ شراء أراضي لاسا من قبل البطريرك يوحنا الحاج، واشترى غالبية هذه الأراضي من آل حمادة. مع الانتداب الفرنسي في العام 1926 بدأت أعمال المساحة والتحديد. وقامت الكنيسة المارونية في حينها بمسح أملاكها مسحاً اختيارياً في ثلاثينات القرن الماضي، وصدرت في تلك المرحلة لصالح الكنيسة أحكام عقارية”.
إذا كانت الأراضي ممسوحة فلماذا الاعتراض الشيعي؟
يجيب سعيد عن هذا السؤال بالقول: “يعتبر الفريق الشيعي الموجود في لاسا من الأهالي، أنّ كل أعمال المساحة والتحديد، وكلّ الأحكام العقارية التي صدرت في مرحلة الانتداب الفرنسي أعطت أرجحية لصالح المسيحيين، وذلك يعود وفق الجانب الشيعي لسببين. الأول: أنّ الانتداب الفرنسي أمّن أرجحية سياسية للمسيحيين. والسبب الثاني أنّ الكنيسة كانت تملك المال الكافي من أجل إجراء أعمال المساحة الاختيارية بينما كان الأهالي الشيعة لا يملكون المال الكافي لذلك. لذلك، هم يعتبرون أنّ إجراء المساحة لم يكن متكافئاً. وهم اليوم، وبما أنّ الأرجحية السياسية لصالحهم، يرون أنّ اللحظة مناسبة للانقلاب على أعمال المساحة السابقة على الاستقلال، وبالتحديد على الأحكام العقارية التي صدرت خلال الانتداب الفرنسي، إذ يعتبرونها متحيّزة ضدّهم لمصلحة الكنيسة المارونية”.
ووفق سعيد فإنّ ما يحصل في لاسا يتجاوز موضوع البيت الجاهز وإزالته: “ما يحصل هو تلاعب بالاستقرار العقاري في لبنان الذي تأسس مع أعمال المساحة والتحديد خلال مرحلة الانتداب، واستكمل بناؤه خلال الجمهورية الأولى وخلال الجمهورية الثانية بعد الحرب الأهلية. والمسّ بالاستقرار العقاري هو بمستوى خطورة المسّ بالاستقرار المالي”.
سعيد: ماذا عن أفقا جرد العاقورة بركة حلولا؟
ولا يخفى النائب السابق تخوّفه من انسحاب نموذج لاسا على مستوى لبنان، من ناحية التلاعب بالاستقرار العقاري، معلّقاً: “ما حصل من رشوة معنوية اسمها إزالة مخالفة وإبقاء عشرات المخالفات، لا يلغي الإشكال الحقيقي في لاسا وفي القرى الأخرى غير الممسوحة في جرد جبيل، التي هي أيضاً على تماسّ مع عائلات شيعية، تعتبر أنّ هذه اللحظة باتت مناسبة سياسياً للانقلاب على الأحكام العقارية وأعمال المساحة والتحديد”.
كما النائب فارس سعيد، يشدّد عضو كتلة “الجمهورية القوية” النائب شوقي دكاش، على ضرورة إجراء المسج النهائي للأرض المختلف عليها، ويسأل: “هل يجري ترك هذا النزاع لإيصال رسائل من لاسا؟”
يرفض سعيد كلام المفتي الجعفري أحمد قبلان عن حلّ المسألة بين الكنيسة والبطريركية: “هذا الكلام مرفوض، فالفيصل بين الكنيسة أو المالك والمعتدي على هذا العقار يجب أن يكون القضاء اللبناني وليس الحلول العشائرية أو الأهلية على طريقة الشيخ أحمد قبلان. وهذا ما رفضناه كأبناء المنطقة في العام 2018 حينما عرض رئيس مجلس النواب نبيه برّي مبادرته في حينها”، مشدّداً على أنّ “الحلّ اليوم هو أمام القاضي العقاري ومن يملك مستنداً ليقدمّه هناك”.
ونصّت المبادرة التي أعلنها الرئيس برّي في العام 2018، على تشريع الاعتداءات لصالح المخالفين، على أن تستكمل الكنيسة أعمال المساحة في سائر الأملاك. غير أنّ هذا الطرح رفضه أهالي لاسا والنواب ولاحقاً بكركي.
وختاماً يأخذ سعيد على “التيار الوطني الحرّ” أنّه “يدفع بالكنيسة إلى الحلّ بالترسيم الأهلي والعشائري مع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وهذا مرفوض، ما نريده هو قرار قضائي”.
شوقي دكّاش: القضاء هو الفيصل
وكما النائب فارس سعيد، يشدّد عضو كتلة “الجمهورية القوية” النائب شوقي دكاش، على ضرورة إجراء المسج النهائي للأرض المختلف عليها، ويسأل: “هل يجري ترك هذا النزاع لإيصال رسائل من لاسا؟”.
كذلك يرفض دكّاش بيان المفتي قبلان: “عملية المسح تتمّ ضمن أطر القوانين، بين وزارة المالية ووزارة الداخلية والمخاتير، ولا مجال لأيّ تدخل. هناك دولة اسمها الدولة اللبنانية، وهناك مرجعية قضائية، ومن لديه أيّ إثبات أو وثيقة فليقدّمها وليحكم القضاء، دون تدخل لا من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ولا من قبل أيّ جهة أخرى”.
ويضيف: “ضمن دولة القانون والمؤسسات لا يمكن لأيّ طرف فرض أيّ شيء بالقوّة”. ويوضح أنّ الملف قضائي، وأنّ “القوات اللبنانية مع أيّ حلّ يجمّع ويقرّب”.