أفضل ما تحقّق في الأيام الأخيرة، جاءت به تلك المواقعة السجالية، الحامية الوطيس كما يقال، بين المرجعيتين الدينيتين المارونية والشيعية. تبدو حماوة الوطيس، على غير المعهود عموماً، عبارة مناسبة للغاية هذه المرة. بما أنّ الوطيس في لغة العرب هو حفرة، أو تنّور، يُخبز فيه ويُشوى، ورئيس “العهد” صارحنا بالأمس أننا – على الغالب – في الطريق إلى جهنم وبئس المهاد، ولم يكذّب خبراً. هذا في وقت تخبز فيه المخارج على “التنور” أو على “الوطيس” من المبادرة الفرنسية وإليها. كذلك، وما دام “التواطس” في لغة العرب يعني “التلاطم”، فمن شأن ذلك تعريف دولتنا هذه التي هي دولة التلاطم والتخبّط والترنّح بامتياز، على أنها “دولة التواطس”. جمهورية التواطس وطواويس الطوائف تشكر زيارتكم!
إقرأ أيضاً: نظام الكفالة الفرنسي للبنان: عبث بداياته أو نهاياته؟
بيد أنّ مشهد “التواطس أرض – أرض” بين المرجعيتين الدينيتين للموارنة والشيعة كانت له مؤثرات تحريرية نفسية بالفعل، من شأنها الإسهام، ولو بقدر ممهور بختم اللحظة، بالتخفّف من وهم المناداة بإسقاط “المنظومة” التي تتولّى السلطة والسلطان في البلد، أو تغيير “نظام الحكم” القائم فيه، من دون الاستعداد لنسف “نظام الأشياء” ككلّ، أو بمعنى آخر طرق باب هذه المفارقة العجيبة التي تقوم عليها الدولة في لبنان، بين كونها طائفية وبين كونها مركزية، بما من شأنه منذ قرن من الزمان إشعار كلّ “مكوّن” أو صاحب سهم فيها بأنه مأكول حقّه على الدوام، مهما حاصص وغنم واستحوذ من نِعَم، وبأن العدل في الميزان لا يستقيم إلا بأن يشارك في صحن “الشريك” انشراحاً ومخالطةً، حتى إذا تمنّع الشريك عن إباحة الأمر ومشاطرة “الشيرينغ إز كيرينغ” جرى رشقه بالشوكة، أو بتهمة الاستئثارية وبالتزوّد المسرف من “البوفيه المشترك”. على تكرار هذه اللعبة بلا كلل تدور الدوائر.
إنّه تحالف الأقليات بأبهى حلله، فما بين تواطس المرجعيتين، ثم ردّ الرئيس عون على الصحافية، بالمستطاع القول إننا نعيش إغواء القول بأنّ “تفاهم مار مخايل هو جهنم”، ليس من طرف من تصدّى لمنطق هذا التفاهم من يومه، بل بالنسبة لمن تمرّغ فيه، وأترع من شرب كؤوسه
بلمحة رغّبت في المرء استحلاء “حلف الأقليات” من جديد، وقع التواطس بين المرجعيتين الدينيتين المارونية والشيعية، على خلفية مماهاة الأولى بين موقف الثنائي حزب الله – حركة أمل وبين الطائفة الشيعية ككلّ وعلاقاتها مع بقية الطوائف، وعلاقة هذه الطوائف بفكرة الدولة ومسار مؤسساتها، والحاجة المفترض أنها وطنية ماسة، في هذا الاعتبار، لتسمية شخص غير شيعي لتولّي المالية. ثم مبادرة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لا حزب الله ولا حركة أمل للتصديق على إطار التصنيف الذي تبنّاه البطريرك الماروني للشيعة ككلّ، في مقابل رفض علة هذا التصنيف، وطرح معادلة: إما تثبيت المالية للشيعة، وإما المداورة في كلّ شيء، بدءاً من قيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي. بمعنى آخر، إنّه تحالف الأقليات بأبهى حلله، فما بين تواطس المرجعيتين، ثم ردّ الرئيس عون على الصحافية، بالمستطاع القول إننا نعيش إغواء القول بأنّ “تفاهم مار مخايل هو جهنم”، ليس من طرف من تصدّى لمنطق هذا التفاهم من يومه، بل بالنسبة لمن تمرّغ فيه، وأترع من شرب كؤوسه.
بالتوازي، تتهافت مع هذا التواطس معزوفة “الدولة المدنية” المساقة على نحوٍ هزلي، أي الدولة المدنية كما يلهج بذكرها، والنصح والتبشير بها، و”التجرؤ على أنفسهم” افتعالاً بتحبيذها، وتداعي بعضهم البعض عزومة ومزايدة إليها، أقطاب المجموعات ذات اللون المذهبي المعرّف لها كمجموعات وقيادات، لا المعرّف لماهية هذه المذاهب ولا للذاكرة الجمعية التي يختزنها أتباع كلّ مذهب منها.
وأقطاب المجموعات إياها لم تنفك لبرهة واحدة تعيب على المسجّلين على قيد ملّتها أنهم غير مطيّفين كفاية وبما يلزم، أو تنقصهم الحميّة أو يكثر بينهم اللهو والسؤال، أو هي سوّغت لمربط الخيل بين تطلّبها للتطييف المتمادي للجماعة، وبين نشدانها لتجاوز الطائفية، في واحدة من مرايا رياء النظام الطائفي الأثيرة منذ قيام هذه الدولة، حيث تصبح معه اللاطائفية هي هي الطائفية، أي تغدو بمنزلة الضمير التطهّري في وجدان الطوائف حيناً، شعور ينتابها بالحاجة إلى التعرّي من نفسها للبس ذاتها من جديد، في الوقت نفسه الذي تحلّ اللاطائفية هذه بمنزلة الحجة الملقاة من لدن طائفة أو جمهور من طائفة، لإحراج الطوائف الأخرى، تلبيساً لدعوى الاحتكام الى قاعدة “العدد” المؤجّلة، القاطعة.
المنطق السائد جوفيّاً هنا، أن يلزم أن لا يخون أحد طائفته، وأن يفوّض أمره، وأمر طائفته، لأولي الأمر فيها، وأن يطيعهم على اللين والشدّة، وأن يكون مستعداً على الدوام لـ “دبلجة” لسانه، حيناً بالفصاحة – وحيناً بالبذاءة، وحيناً بالطائفية
يجد أرباب الطوائف الوقت لتنسّم مشروع “الدولة المدنية”’، أو ما شئت من مساحيق وأوصاف يُحمَل عليها مرجوّهم، كمثل “الدولة العادلة” و”القادرة” ودولة “القانون” – وما أطول القائمة المَلُوكة (من اللَّوْك)، المعادة المكرّرة وطول مراس من يعرض عليك هذه البضاعة بالتحفيز والبهرجة، وهو الأدرى بأن ما يبيعه لك كسد وفقد في آن. يجدون هذا الوقت لبيع هذه البضاعة الوهمية والواهمة – مع أنّه يفترض أنها لم تعد توهم إلا النفر الرغائبي القليل من الناس. يجدون هذا الوقت ما بين تطلّب التطييف الحماسي والحيوي المتواصل لجمهورهم، وتمييز هذا التطييف سياسة، بأن يعرف هذا الجمهور متى تحتكم قياداته إلى اللين، ومتى تنفر من اللين الى الشدّة، وكيف يحافظ على رشاقته الذهنية والبدنية كجمهور متواشج مع قياداته المجرّبة والمفدّاة في كلّ حين، فلا يتميّز عنها… إلا إذا حصل وأومأت له هذه العبقريات المحرّكة الملهمة بذلك. أما من لم يستوعب أوان النقلة من اللين إلى الشدّة، أو من لم يرغب بواحدة من الحالتين من الأساس، أو من لا ينظر إلى مصلحة الملّة كشيء قابل للتحديد والتمثّل وتفويض أيّ كان للنطق به والذود عنه، فهو “مارق”، منحّى عن الملّة، كاره لنفسه، جاحد بجلدته، وعميل للطائفة المجاورة، ولأعداء الطائفية في الإقليم، وما وراء البحار، وهو كلّ هذا في عرف هؤلاء المنادين بالدولة المدنية، اللاطائفية، وبالتطييف الاحترازي والاضطراري لجمهور ملّتهم، بل التطييف الحيوي بما أنّ قانون اللعبة فيه، إدراك متى اللين ومتى الشدّة، بل تفويض المرجعية القيادية بانتقاء أوان اللين وأوان الشدّة، والتبختر بينهما. فالمنطق السائد جوفيّاً هنا، أن يلزم أن لا يخون أحد طائفته، وأن يفوّض أمره، وأمر طائفته، لأولي الأمر فيها، وأن يطيعهم على اللين والشدّة، وأن يكون مستعداً على الدوام لـ “دبلجة” لسانه، حيناً بالفصاحة – وحيناً بالبذاءة، وحيناً بالطائفية، وحيناً آخر، بلوم الطائفية المسكينة، والحال هذه، بأنها هي أشرّ الشرور، وعلّة العلل، وبأنه كلّ مرة انسدّت السبل بنموذج الدولة المركزي والطائفي في آن، وجب رمي حجرة لعنة على الطائفية… لإعادة تدوير، أو تبييض، مصادر حيوية الطائفية نفسها.
يساهم التواطس الماروني الشيعي الراهن في دفع الأمور بالاتجاه الذي يحب إغفاله أرباب الطوائف كما يحب إغفاله ناشطو المجتمع المدني او “الدندني”، بما أنهم يدندنون على الدوام شعارات مقفلة عن طرق باب تدهور العلاقة بين الطوائف بعامة، وبين الجماعات التي تعيد تطييف المطيّف مرة في هذا الاتجاه ومرة في ذاك، ذلك أنّ ناشطي المجتمع “الدندني” هؤلاء يحسبون الطائفية من اختراع وتلفيق نصف دزينة من القادة، من دون جذور فعلية في البنية الاجتماعية وفي التشكيلات الذهنية الهوياتية، فيختزلون بالزعماء أزمنة الحرب والسلم الوصائي والأزمات المتتالية كما لو لم تكن هناك لا طوائف ولا طبقات اجتماعية ولا دول إمبريالية ولا أنظمة إقليمية، كما لو أنّ كلّ تاريخ البلد هو تاريخ أفراد هائمة على وجهها يسبب ظلامة يلحقها بهم مجموعة من السوبرمانات، وما هذه النظرة إلا مشاركة من “الدناندنة” هؤلاء في رسم هالات تأليهية، ولو سلبية من قبلهم، حول الزعامات.
القانون الدستوري على الطريقة اللبنانية، قانون دولة التلاطم والتواطس، أخذ يتلاشى في غرفة مهملات القانون الدولي
هناك مشكلات فعلية بين الموارنة والشيعة، وبين الشيعة والسنة، وبين الموارنة والسنة، وبين المسلمين والمسيحيين، لا هذه تلغي مشكلة العدد الأكبر من الناس مع مراكز تكدّس الثروة أو مع مراكز تكدّس العنف. المسائل كلها تتشابك هنا، لكن لا تختزل الواحدة منها في أخرى، كما لو كانت انعكاساً لها.
مشكلة أنّ الحكومة إما أن تحظى بتغطية سنية وتفاعل غربي معها، ولم يعد فيها مكان لتغطية شيعية مناسبة في الوقت نفسه، أو أن تحظى بتغطية شيعية ولم يعد فيها مكان لتغطية سنية وتجاوب غربي في الوقت نفسه، ليست هذه بمشكلة ملفقة، إنها مشكلة فعلية قدر ما هي تفجيرية للمجتمع والدولة معاً، مشكلة محسوسة فعلياً كذلك لدى مروحة كبيرة من الناس، تشعر، عن صح أو عن خطأ، بأن مصالحها المباشرة مرتبطة بمسار هذه المشكلة، ولا ينفع كثيراً تبشير هؤلاء الناس بأنه لا مصلحة لديكم في التموقع بين أحد طرفي هذه المشكلة. الشيء نفسه بالنسبة لما نسمّيه وزارات سيادية. هناك أربع وزارات سيادية في أيّ حكومة. الداخلية والخارجية والدفاع والمالية، ويمكن تخميسهم بإضافة وزارة العدل. فإذا كانت ثمّة مشكلة بأن يكون هناك وزير من “الثنائي” لتولّي الداخلية أو الخارجية أو الدفاع أو بالمالية او العدل، هذا الثنائي الذي يتمتع بالنهاية بتوكيل انتخابي واسع وفعلي بطائفته، من دون أن يلغي ذلك أنّ المناخات الديموقراطية ليست على ما يرام بالنسبة للتعاطي مع المعترضين والمتمرّدين على الثنائي، وأحوال هؤلاء أصعب من أقرانهم في الطوائف الأخرى. لكن بالمحصّلة، لهذا الثنائي توكيل انتخابي، وإجماع برلماني بالنسبة إلى مقاعد النواب الشيعة، وكلّ هذا، حين يواجه بإشكالية حادة تتعلّق بأن مبادرة تسوقها دولة الكفالة المالية للبنان، فرنسا، تتطلّب غير شيعي لوزارة المالية، إنما يطرح سؤالاً يتعلّق بجوهر التركيبة، بمدى إمكانية الاستمرار بدولة تكون مركزية وطائفية بالوقت نفسه، من دون الهرب من هذه المسألة بالطرح العشوائي للدولة المدنية على سبيل إرجاء الحديث أو تمييعه. بالتوازي، حين يمغط مفهوم “العرف” بالنسبة إلى وزارة تولّاها عدد من غير الشيعة بعد الطائف (السنيورة وقرم وسابا وقطار وأزعور وشطح والصفدي والحسن) ليصار إلى اعتبارها عائدة عرفاً للطائفة، فإن هذا لم يعد يتعلّق اليوم بفرض عرف دستوري، أو فوق دستوري، او “مهمشر” للدستور، بل إنه غدا في عرف اليوم، ومع المبادرة الفرنسية والعقوبات الأميركية بمثابة طلب اعتماده كعرف مكرّس في القانون الدولي نفسه: إنّ المالية في لبنان لهذه الطائفة، والخارجية في تلك. رمزياً، معنى ذلك أساسي: وهو أنّ القانون الدستوري على الطريقة اللبنانية، قانون دولة التلاطم والتواطس، أخذ يتلاشى في غرفة مهملات القانون الدولي.