كان ذلك في العام 2013. كتب أحد زملائي السابقين في كلية الإعلام بالجامعة اللبنانية، وهو قد صار مسؤولاً إعلامياً غير معلن في حزب الله، كتب على فيسبوك هاشتاغاً حمل الكثير من المعاني، والكثير الكثير من السياسة والتاريخ والمستقبل. كتب، هو وعشرات آخرون في بداية المساء: “ليلة سقوط سايكس بيكو”.
إقرأ أيضاً: نصر الله يفصل الدين عن السياسة
كانت قد مرّت أشهر كثيرة في لبنان، بين همس وغمز، ومعلومات عن مشاركة قوات وعناصر تابعين لحزب الله في “حماية المراقد المقدّسة” في الشام، وفي “حماية الحدود من التكفيريين”. وكانت بيئة حزب الله تغلي، بسبب التعاطف “السنيّ” الكبير في لبنان مع الثورة السورية، مترافقة مع وصول أخبار عن “استشهاد فلان الفلاني خلال أداء واجبه الجهادي”، في حزب الله، من دون أن تحدّد بيانات النعي مكان الاستشهاد وطبيعة الواجب.
في نيسان 2013 أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله رسمياً عن مشاركة حزبه في معركة القصير على الحدود اللبنانية. كان ذلك اجتياحاً من قبل قوّات حزبه، مدعومة من القوات السورية الرسمية. وسرعان ما توسّع نشاطه إلى احتلال الزبداني، وصولاً إلى حمص وحلب وغيرها. وفي حزيران 2013 دافع نصر الله عن مشاركته في ضرب الثورة السورية: “سنكون حيث يجب أن نكون.. وما بدأنا في تحمّل مسؤولياته، سنواصل القيام به حتّى النهاية.
يُقال إنّ سنّة لبنان، الذين كانوا يحلمون بالوحدة العربية ويرفضون استقلال لبنان، دفعوا حياة رفيق الحريري ثمناً ليكتشفوا أنّ “لبنان أوّلاً”. وحملوا من يومها شعار “السيادة والاستقلال”، منتسبين إلى نادٍ كان يجمع المسيحيين والدروز. وظلّ الشيعة خارج هذا النادي
ذهب نصر الله بعيداً في أحلامه. ذهب إلى العراق، باعترافه، وذهب إلى البحرين، بنشاط إعلامه وكوادره، وذهب إلى اليمن، بدعمه وسلاحه ومدرّبيه وعناصره، وذهب إلى ألمانيا وإلى قبرص وإلى الأرجنتين وإلى الولايات المتحدة، وذهب وذهب وذهب. لكنّه كان دوماً محكوماً بحدود لبنان، وإن لم يكن يعرف بعد.
يُقال إنّ سنّة لبنان، الذين كانوا يحلمون بالوحدة العربية ويرفضون استقلال لبنان، دفعوا حياة رفيق الحريري ثمناً ليكتشفوا أنّ “لبنان أوّلاً”. وحملوا من يومها شعار “السيادة والاستقلال”، منتسبين إلى نادٍ كان يجمع المسيحيين والدروز. وظلّ الشيعة خارج هذا النادي.
ثم جاء تفجير 4 آب 2020. إنفجر مرفأ بيروت بمن فيه، بعنابره المعلنة والمكتومة، بفساده وما حُكيَ عن حشوات صواريخه، وبالأمونيوم والفرقيع، وبكلّ الاحتمالات الممكنة، افتعالاً أو إهمالاً. وبعد التفجير جاء تفجير عين قانا، وجاءت التهديدات من قيادات عسكرية إسرائيلية باغتيال نصر الله، وبتفجير الجناح والأوزاعي والشويفات، ما يهدّد بمحو ضاحية بيروت الجنوبية كلّها، عن بكرة أبيها.
ثم خرج الرئيس نبيه برّي ليتحدث عن “حكومة إسرائيل”، وعن بدء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، في غرفة واحدة، لترسيم الحدود بيننا وبينها.
ترسيم الحدود يعني اعترافاً بنهائية الكيان اللبناني، وبنهائية حدوده، وبأنّ القصير والزبداني، كما كريات شمونا، تقعان “خلف الحدود”
اختلف الرواة والمحلّلون، لكنّ “ترسيم” الحدود بين عدوّين، يعني اعتراف كلّ منهما بالآخر، وبحدوده، ويعني اعترافاً ضمنيّاً، ذاتيّاً، بأنّ هذه الحدود، كما تضع الآخر خارجها، فإنّها تضع الأوّل داخلها. وهي قد تكون المرّة الأولى، بعد تحرير الجنوب في العام 2000، كمساهمة شيعية متأخّرة في “استقلال لبنان” الأوّل، عام 1943، المرّة الأولى التي يعرف الشيعة، الجنوبيون تحديداً، والطائفة بشكل عام، يعرفون ويعترفون، بالحدود. هم الذين في مؤتمر وادي الحجير، مثل مشاعر السنّة، كانت تراودهم أفكار العروبة بدلاً من قبول الانتداب.
يبقى ترسيم الحدود مع سوريا. وإلى حينها، فإنّ ما يجري اليوم ليس تفصيلاً. شيعة لبنان اكتشفوا “حدود” الكيان. واعترفوا بها، وسيوقّعون عليها، عاجلاً وليس آجلاً.
ترسيم الحدود يعني اعترافاً بنهائية الكيان اللبناني، وبنهائية حدوده، وبأنّ القصير والزبداني، كما كريات شمونا، تقعان “خلف الحدود”.
الشيعة بعد 4 آب 2020، أعلنوا انتسابهم إلى نادي “السيادة والاستقلال”، وإن لم يعرفوا بعد، وإن لم يعترفوا.. بعد.