فيلم “المعضلة الاجتماعية”: خوارزميات التحكم صندوق باندورا الجديد

مدة القراءة 7 د


لا شيء ضخماً يدخل حياة البشر من دون لعنة. يفتتح فيلم “المعضلة الاجتماعية” للمخرج جيف أورلوفسكي من إنتاج “نتفلكس”، خطابه بهذا الاقتباس من سوفوكل، كمقدّمة لشرح مسار تفكيك المجتمعات، وتدمير الروابط الإنسانية التي تمارسها وسائل التواصل الاجتماعي.

إقرأ أيضاً: “الفاتنات” جريمة بحقّ الطفولة على “نتفليكس”.. والخسائر 9 مليار $

حقق الفيلم نجاحاً عالمياً منذ عرضه أوائل الشهر الماضي، وهو يعرض عبر مزيج من التوثيق والدراما شهادات مجموعة من الخبراء التقنيين وعلماء أخلاقيات التصميم، وخبراء الواقع الافتراضي، كانوا شركاء أساسيين في تصميم وتطوير وخلق الكثير من الوسائط التكنولوجية المعتمدة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتركيب سياساتها وتوسيع شبكة مستخدميها، ومضاعفة أرباحها.

سبق لأصحاب الشهادات التي يوثّقها الفيلم العمل في مناصب تأسيسية وقيادية داخل أضخم شركات التكنولوجيا ومنصات العرض مثل غوغل، يوتيوب، بنتريست، إنستاغرام، تويتر، وفيسبوك.

القاسم المشترك الذي يجمع بينهم أنّهم تركوا أعمالهم لأسباب أخلاقية، بعد تيقّنهم من أنهم يشاركون في الترويج لأضخم مشاريع السيطرة الشاملة وتوجيه الآراء وتفكيك المجتمعات والروابط الإنسانية.

نجح الفيلم في تحقيق نجاح عالمي منذ عرضه أوائل الشهر الماضي، وهو يعرض عبر مزيج من التوثيق والدراما شهادات مجموعة من الخبراء التقنيين وعلماء أخلاقيات التصميم، وخبراء الواقع الافتراضي


يوتوبيا وديستوبيا

المعضلة الأكثر تعقيداً في عرض مخاطر تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها السلبي، أنها لا تظهر كمشكلة على الإطلاق، بل بوصفها نوعاً من “اليوتوبيا” المجانية والممنوحة للجميع.

أيّ شخص متصل بالإنترنت يمكنه الدخول إلى حدائقها والتمتع بخيراتها مجاناً. يمكنه كذلك صناعة صورته الخاصة عن نفسه وترويجها، والتفاعل مع الأحداث وإبداء الرأي فيها من دون أن يغادر مكانه.

معضلة وسائل التواصل تكمن في أنها أتاحت الكثير من الفرص الجدّية والإيجابية. بفضلها جُمعت تبرّعات كبيرة لمؤسسات خيرية، ولمّ شمل عائلات متفرّقة، وإطلاق حملات ترفض التمييز العنصري والجندري.

لكن كلّ هذه الإيجابيات العديدة تختفي أمام واقع التسارع الهائل لنمو هذه الوسائل وتطوّرها الذي يسبق بمراحل قدرة المستهلكين على التحكّم بها، بحيث باتت ممتلكة لحياة مستقلة بذاتها، ولها خريطة أهداف تطمح إلى تحقيقها من خلال تحويل مستعمليها إلى منتج تبيعه للمعلنين.

الصفة الممنوحة للمستخدمين التي تسمح بعرضهم كمنتج، تحدّدها خوارزميات الذكاء الاصطناعي الفائقة التطوّر والسرعة، التي تعمل بفضل ما توفّر لها من بيانات هائلة عن سلوكاتهم وتفضيلاتهم،على التأثير في إدراكهم ومواقفهم، وتوجيه سلوكهم

إغراء المجانية البسيط والبدائي يتحوّل، مع القدرات غير المسبوقة في توجيه الآراء والتأثير فيها، والتوظيف الهائل للاسثمارات والخبرات التكنولوجية المدعومة بدراسات علم النفس والأعصاب والتسويق، إلى شبكة عنكبوتية عملاقة تتضخّم باستمرار، يلعب فيها المستخدم دور ذبابة يمتصها عنكبوت غير مرئي، يدير تلك الشبكة ويتحكّم بها.

 آزارا سكين، مؤسس مركز التكنولوجيا الإنسانية يؤكد في شهادته، أنه “إذا لم تدفعوا ثمن المنتج، فأنتم المنتج”.

 الصفة الممنوحة للمستخدمين التي تسمح بعرضهم كمنتج، تحدّدها خوارزميات* الذكاء الاصطناعي الفائقة التطوّر والسرعة، التي تعمل بفضل ما توفّر لها من بيانات هائلة عن سلوكاتهم وتفضيلاتهم،على التأثير في إدراكهم ومواقفهم، وتوجيه سلوكهم.

يباع كلّ ذلك للمعلنين مع ضمانة تؤكّد أنّ الحسابات المعقّدة والبالغة الدقّة للخوارزميات*، تستطيع تأمين نجاح ساحق وحاسم للإعلان بمجرّد نشره.

 السلعة التي تبيعها الخوازميات هي اليقين، وهذا اليقين لا يبالي بالمحتوى على الإطلاق سواء أكان فكرة أو سلعة، أو تسويقاً لنمط حياة معيّن.

من هنا، انعدمت الحدود بين الخيالي والواقعي، والحقيقي والزائف، وصار كلّ شيء عبارة عن منتج أو محتوى رقمي لا يمكن فرزه على أساس القيمة والنوع والجودة.

فتح هذا الأمر الباب واسعاً أمام انتشار الإعلانات المخادعة والأخبار المزيّفة، ومنحها واقعية ومصداقية تتأسّس على معيار العدد والتفاعل.

على سبيل المثال، يعرض الفيلم نظرية انتشرت بقوة في الآونة الأخيرة، تعتبر أنّ فيروس الكورونا ليس حقيقياً، وأن لا أحد مصاباً به بالفعل، وأنّه ليس سوى كذبة وخدعة تستخدم لإخفاء موضوع كبير يجري، ولا نعلم عنه شيئاً.

السلوك الإدماني وتدمير المجتمعات

يحتلّ الاهتمام بمعرفة رأي الآخرين بنا جزءاً كبيراً من عمل أدمغتنا، لكنّنا، كما ينبّهنا الفيلم، لسنا مصمّمين لمعرفة أو اكتشاف واستقبال آراء الآخرين بنا كلّ خمس دقائق. لا يجيد دماغنا التعامل مع هذا الأمر، وتالياً فإنّ الضرر الذي يصيبه مماثل لما يمكن أن يصيب حاسوباً حُمّل أكثر من طاقته.

النتيجة الحتمية التي يفرزها التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، تبدأ بتعزيز السلوك الإدماني والاضطرابات السلوكية، والأمراض النفسية من قبيل القلق والاكتئاب، وصولاً إلى الجنون والانتحار.

تثبت إحصاءات الانتحار والأمراض النفسية الحادة الترابط المباشر بين الارتفاع القياسي لأعداد المنتحرين من المراهقين، وبين شيوع استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وتؤكد أنّ الجيل الجديد الذي سيتاح له استعمالها في سنواته الدراسية الأولى سيكون جيلاً ضائعاً ومريضاً بشكل كامل.

يعلن عالم الإحصاء البروفيسور إدوارد توفت أنّه لا يوجد سوى صناعتين تطلقان على زبائنهما اسم المستخدمين باللغة الإنكليزية: Users، وهما المخدّرات والبرمجيات


سرعة تطوّر التكنولوجيا الموظّفة لدى الشركات المشغّلة لهذه الوسائل، والارتفاع الخيالي لأرباحها واستثماراتها، سبقا كلّ التشريعات القانونية والتنظيمات الاجتماعية. وجدت المؤسسات القانونية في كلّ الدول نفسها عاجزة عن مواجهة أثره السلبي المتمادي نفسياً وسياسياً، لدرجة أنه لم تتوفّر آلية قانونية مناسبة لتجريم قضية مثل  قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية الرئاسية السابقة.

يعلن عالم الإحصاء البروفيسور إدوارد توفت أنّه “لا يوجد سوى صناعتين تطلقان على زبائنهما اسم المستخدمين باللغة الإنكليزية: Users، وهما المخدّرات والبرمجيات”. مدمن المخدّرات يريد أن يشتري السعادة والنشوة، لكنّه لا يحصل فعلاُ إلا على الوهم القاتل، والأمر نفسه ينطبق على مستخدم البرمجيات.

البنية التي تحكم آليات إدارة هذه المؤسسات تنسجم مع مع المنطق العميق للإرهاب لناحية إيمانها بالتطرّف وتجاوز كلّ الحدود، ونشر ديكتاتورية المراقبة والتحكّم، وبيعها لمن يرغب. لذا، فإنّ الجماعات الأكثر تطرّفاً تنظيمياً هي الأقدر على الاستفادة من طبيعة عملها.

لا وجود للقيم في عالم التواصل. التهديد يطال فكرة المجتمع كما عرفناها لأنّ الميدان الذي يحقّق الأرباح هو ميدان الحروب الثقافية والشخصية والصراعات. لا وجود لفهم مشترك للواقع. الجميع لا يريدون سوى أن يكونوا محقّين على الدوام.

لقد بات الواقع خارج الشاشات، وما يطلق عليه اسم المجتمع، بات غير واقعي بالنسبة لمليارات مستخدمي وسائل التواصل. وعليه، فإنه آيل للتبدّد.

لا نجاة من هذا المصير إلا من خلال ما يقترحه الفيلم في خاتمته بتصميم تكنولوجيا تواصل خاضغة للمعايير الإنسانية والأخلاقية، وتعميم عمليات الضبط وتجنّب الغرق في دوّامة إغراء الإشعارات والذهاب مباشرة إلى حيث نريد وحسب، وأن نحدّد بصرامة لأطفالنا الوقت المسموح لاستعمالها.

يحتاج تطبيق هذه الحلول إلى إرادة جماعية، وإلا سوف نجد أنفسنا أمام مشهد تدمير الحضارة ونهاية العدالة والديمقراطية.   

*خوارزميات: هي آلية عمل تعمل وفق ترتيب متسلسل ومتكرر بغية التأثير على خيارات مستعملي الإنترنت عبر تصنيفهم في مجموعات بناء على  دراسات حسابية دقيقة لتفضيلاتهم وميولهم.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…