الأغنيات لا تكذب: تنكة تنكة.. حبّة حبّة.. بيضة بيضة

مدة القراءة 4 د


“تنكة تنكة، مين ما كان بياخد تنكة، راحت أيام نعبي Full، هلق تنكة تنكة…”، تقول الأغنية المكتوبة كلماتها في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، وقد كتبها الفنان المسرحي وسيم طبارة وغنّتها عائلة بندلي في محاولة لنقل واقع الانهيار الأمني والاقتصادي الذي عانى منه اللبنانيون والذي جعلهم، بعد بحبوحة، يلجأون إلى التقنين والقلّة.

تنكة تنكة. هكذا كانت الحال حينذاك، في خضمّ الحرب الأهلية. “مين ما كان بياخد تنكة”. وهذا طبعاً بعدما ذهبت أيام ملء خزانات الوقود عن آخرها، أو “التفويل” بحسب المصطلح اللبناني. “مين ما كان بياخد تنكة”. أي إنّ التنكة (20 ليتراً من البنزين) كانت متاحة للجميع، في عزّ الحرب. واليوم يبدو أنّ أيام الـ”تنكة تنكة” راحت، و”مين ما كان” لا يأخذ تنكة، ولا حتّى ليترات قليلة من البنزين. كثير من المحطات لم تعد تلبّي طلبات زبائنها، وتقفل الأبواب بوجههم بسبب خلوّ خزّاناتها من البنزين. وكثير من المحطات تشترط أن تكون التعبئة بنسبة محدّدة للزبائن، لا تصل إلى حدّ “تنكة”.

إقرأ أيضاً: بيروت في القصائد والأغاني: “زهرة في غير أوانها”..

يعيش اللبنانيون اليوم بأقلّ من “تنكة تنكة”، في أوضاع أسوأ من أيام حربهم الأهلية، ولا يستطيعون فعل شيء إزاء المافيا الحاكمة والمتحكّمة بجميع الموارد ومفاصل الحياة الأساسية، وتتحكّم تالياً بنمط حياتهم، وتفرض عليهم أن يقبلوا، بقوّة الأمر الواقع، الوقوف في طوابير البنزين، وطوابير الصرّافين، وطوابير المصارف، وطوابير المخابز والأفران، وعلى أبواب المستشفيات. الأغنية هذه لا تكذب. هي تنقل واقعاً عاشه لبنان قبل ما يزيد على أربعة عقود. ومع ذلك، يتجاوز الواقع الأغنية وينحدر إلى ما هو أسوأ من تلك الأيام، التي لم يتخيّل كاتبها الساخر وسيم طبارة أن يصل لبنان إلى أسوأ منها. لم يعِش وسيم طبارة حتى يومنا هذا ليرى كيف راحت أيام الـ”تنكة تنكة”، وكيف راحت ايام البيضة بيضة، بعد أن “راحت أيام الكارتونات” في أغنيته، وكيف أيضاً راحت أيام الـ”علبة علبة” والـ”ربطة ربطة” والـ”فرمة فرمة”، بعد أن راحت أيام “الكروزات” و”زنلي قنطار” و”المعلاق” في الأغنية، وصرنا في أيام تعزّ فرمة اللحم، ويكاد المواطنون يعجزون عن شراء سيجارة. وصرنا في أيام التدفيش من أجل “نتشة بدال الربطة” كما توقّعت الأغنية حينذاك، التي تنبأت أيضاً بأن “زمن الروشتات” آفل وأنّه زمان الـ”حبّة حبّة” في شراء الأدوية. وحتى هذه الـ”حبّة” قد تصير نادرة ولا يمكن الحصول عليها من الصيدليات بعد رفع الدعم عن الدواء. لم يعِش طبارة إلى هذا اليوم. ومات رينيه بندلي بعد أسابيع من ثورة 17 تشرين في العام الماضي، كما لو أنّه لم يُرِد أن يعيش إلى وقت يرى عجز أغنيته عن اللحاق بالواقع إلى قعره. كان الغناء مادّة لمقاومة الواقع بالسخرية، لكنّ الواقع بتجاوزه الأغنية، بات يحوّل السخرية إلى مأساة.

لا تكذب الأغنيات. لا يكذب محمد العبدالله حينما يغنّي من كلماته أحمد قعبور: “شو بعاد/ مثل اثنين/ مثل كفّين عمفرق/ بيلوحوا مثل السفينة قبل ما تغرق”. غرقت السفينة، ولا يزال الكفان يلوّحان وحدهما من فوق الماء

الأغنية لا تكذب. عاش أهلنا واقع كلماتها كلمة كلمة. ونعيش اليوم ما هو أسوأ من كلماتها، وكلمات غيرها من الأغنيات التي بدت لجيلنا كما لو أنّها من زمن آفل لا يمكن أن يعود، لكنّه عاد بقسوة أكبر. كان مارسيل خليفة يسأل الله في أغنية شهيرة له أن “ينجّينا من الآت”. تقول الأغنية التي لا تكذب بدورها: “هات إيدك يا خيي هات، ياما قضينا وهلات، ياما لوّعنا الماضي والله ينجينا من الآت”. وقد أتى هذا “الآت”، ولم تفلح الدعوات في تجنيبنا هذا المصير الذي أوصلتنا إليه طغمة من الفاسدين والقتلة. لم تكذب الأغنية في أيّ تفصيل: “قالولي عن أبو سعيد، حكمو كريزة نهار العيد، صريخه كان يعلا ويزيد وما فتحوا باب الحديد، وعباب المستشفى مات”. لم تكذب، وقد تجاوزها الواقع في القسوة. بات أبو سعيد يموت في بيته من دون حتّى القدرة للوصول إلى المستشفى، ولا الحصول على الـ”حبّة حبّة” كما في أغنية عائلة بندلي.

لا تكذب الأغنيات. لا يكذب محمد العبدالله حينما يغنّي من كلماته أحمد قعبور: “شو بعاد/ مثل اثنين/ مثل كفّين عمفرق/ بيلوحوا مثل السفينة قبل ما تغرق”. غرقت السفينة، ولا يزال الكفان يلوّحان وحدهما من فوق الماء. لا تكذب الأغنية: “بيناتنا في بلاد عم تحترق/ وأولاد رح يسألونا كيف؟”. ولن يكون بمقدورنا أن نجيبهم. تماماً كما عجز أهلنا عن إجابتنا عن سؤالنا لهم: “كيف”. كيف حدث كلّ ذلك، ولماذا؟

لا تكذب الأغنيات. لا تكذب “تنكة تنكة” ولا “هات إيدك يا خيي هات” ولا “شو بعاد”. ولا تكذب طبعاً أغنية زياد رحباني الشهيرة التي تلخّص حال الشعب اللبناني “بهاليومين”: “شي عجيب كيف ماشي…”.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…