لا يمكن أن تدخل مشروع الحريري – القبة، دون أن تتوقّف عند جدران الأبنية التي ترك رصاص الاشتباكات عليها آثاره. بيوت صغيرة تحمل العديد من قصص الأسى والفقر، وهي تتنافس فيما بينها على رفع صور الزعماء ورايات تياراتهم، فوق الأسقف المستعارة، أو الآيلة للسقوط، وتنتصب صور أصحاب المليارات فوقها، في مشهد لا يكفّ عن أن يكون سوريالياً.
تحت ظلال هذا البؤس، نكمل السير مشياً على الأقدام بحثاً عن منزل “أبو نظير البيرة”، وهو والد أحد الناجين من عبارة الموت، وجدّ لطفل وُجد جثمانه يوم السبت في بحر البترون. بعد جهد بسيط، استدلّينا إلى المنزل، الشاحب كما وجوه سكّانه وأحوالهم.
إقرأ أيضاً: تسهيلات رسمية لقوارب الهجرة الطرابلسية
في الطبقة الأولى من المبنى لا سكان. وكأنّ أصحاب الشقتين هربوا من المشهد. في الطبقة الثانية، كان هناك باب مشرّع ومجموعة نسوة ارتدين اللون الأسود، حزناً على طفل قضى جوعاً قبل أن يكمل عامه الثاني، وغيّبه البحر لأيام قبل أن تقذفه الأمواج إلى الشاطىء.
دخلنا إلى المنزل، وفي صدره امرأة منهكة الوجه، وأخريات يخفّفن عنها، على الأرجح هي الأم التي خسرت وحيدها، سألنا بتردّد عن “نظير”، فأشرنَ لنا أنّه في الطبقة الثالثة.
مع 3 بنات وطفل وزوجة، استقلّ نظير الابن زورق الموت. وبعدها خدعهم المهرّب، وتركهم في البحر دون أيّ مؤن أو مياه. المركب لم يصل إلى قبرص كما تردّد، بل قضى ثمانية أيام في مياه الميناء البعيدة
هناك كان أبو نظير – الجدّ في استقبالنا، مدخّناً سيجارته ومحاولاً المحافظة على هدوئه. هو كبير العائلة الذي عليه ألّا ينكسر، أن يكون قوياً في لحظات كهذه. بين مجموعة من الشبان، بين أصدقاء وأقرباء، صادفنا نظير جالساً، ملامح وجهه تكاد تحكي ما عاناه، وعيناه المنهكتان والجامدتان في آن واحد، تفيضان قهراً. هو الذي لم يعد قادراً على بكاء طفله، بعد كلّ ما قاساه، وهو الذي باع أثاث منزله طمعاً بحياة أفضل خارج حدود هذا الوطن، كي يدفع أجرة الرحلة.
مع 3 بنات وطفل وزوجة، استقلّ نظير الابن زورق الموت. وبعدها خدعهم المهرّب، وتركهم في البحر دون أيّ مؤن أو مياه. المركب لم يصل إلى قبرص كما تردّد، بل قضى ثمانية أيام في مياه الميناء البعيدة.
“بعد 3 أيام من وفاة ابني، قلت لزوجتي: لنرمِ الجثة في البحر، ربما بحسنتها يرسل لنا الرب من ينقذنا”. بهذه العبارة وبغصّة يتحدّث نظير عن طفله الذي قضى جوعاً بين يديه، وفي وسط البحر، وتحت رحمة السماء. واصفاً الأيام الثمانية بـ”المأساوية”، هم الذين كان كلّ قوتهم ومشربهم مياه البحر المالحة. ومنها شرب الطفل، قبل أن يمت جوعاً وعطشاً.
في هذه الأثناء، يقاطع أحد الشبان الحاضرين حوارنا مع الأب المفجوع، قائلاً: “كل الي موجودين هون مستعدين يخسروا كل شي ويهربوا من هالبلد”
نظير الذي كان قد هاجر في العام 2005 إلى ألمانيا بطريقة غير شرعية، يؤكد أنّه ليس نادماً عن هجرته الأخيرة، فيقول بالحرف الواحد: “لست نادماً. وإن وجدت فرصة مرة ثانية، سأهرب، إلى أن تؤمّن لنا الدولة معيشة كريمة، وإلا سأظلّ أحاول الهرب، ولو مات كلّ أولادي بين يديّ. هكذا لربما نموت كلّنا ونرتاح جميعاً من هذا البلد”. ويضيف: “نحن نعيش في فقر غير طبيعي. علبة الحليب لطفلي المرحوم الذي كان عمره سنتين ثمنها 90 ألف ليرة لبنانية. والحفاضات ارتفع سعرها. والقرطاسية؟ كيف سأسجّل أولادي في المدرسة. حتّى المياه التي نشربها ارتفع سعرها وصارت صعبة”.
هنا إذاً، في المنزل، قد يموت نظير وأولاده من العطش، تماماً كما لو أنّهم لا يزالون في عرض البحر، وحيدين إلا من السماء، والمياه المالحة، وحائرين، بين أن يكونوا طعاماً للسمك، وبين أن يكون السمك طعاماً لهم.
لا ينصح نظير أحداً بالإقدام على مغامرة الهجرة غير الشرعية، لكنّه يؤكّد أنّ “كلّ شخص حرّ بقراراته”، وأنه هو مصمّم على تكرار هذه التجربة في أوّل فرصة. في هذه الأثناء، يقاطع أحد الشبان الحاضرين حوارنا مع الأب المفجوع، قائلاً: “كل الي موجودين هون مستعدين يخسروا كل شي ويهربوا من هالبلد”.