«إنّي نزلت بكذّابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم
إلّا وفي يده من نتنها عود
أكلما اغتال عبد السوء سيّده
أو خانه فله في مصر تمهيد
لا تشتر العبد إلّا والعصى معه
إنّ العبيد لأنجاس مناكيد»
(المتنبي)
في أيام الطفولة كنّا نسكن في حي صغير في المدينة، لم يكن لنور الشمس طريق إليه إلّا نادراً، حتى في عز الصيف، لضيقه. وكانت الشبابيك بين الأبنية المتقابلة لا يفصلها سوى مترين أو ثلاثة، فكانت أسرار البيوت معروفة للجيران، فكل شيء مكشوف. المصيبة كانت عندما كانت تختلف شرشوحتان من نساء الحي من أصحاب المشكلات، كانت تبدأ مقامات الشرشحة، والشرشحة تبدأ في أن تفضح الواحدة منهما ما تعرفه عن الأخرى، وبدلاً من أن ترد الأخرى التهم عنها، تذهب مباشرة إلى فضح جارتها بما تعرفه. هنا، قد يتوقف الشجار حتى لا يفضح بقية المستور، أو يبدأ العراك وشَد الشعر، إلى أن يتدخل عقلاء الحي لفك النزاع بقولهم «استرا على بعضكما». لكن مع الوقت، وبعد تكرار مقامات الشرشحة، توقّف العقلاء عن التدخل، وكانت جدتي تقول لي عندما أستفهم عن عدم التدخل «السفيه اكتفيه، وقليل الأصل ما لك فيه؟». قد يكون تكرار الشرشحة أحد أسباب هجرتنا للحي، على رغم كل الحنين والذكريات التي ما زالت تحفر ذاكرتي، عن «زكور» بائع الفلافل، و»أبي مظهر» الحلّاق والمطهّر وطبيب الأسنان في الوقت ذاته…
إقرأ أيضاً: هل ينبعث مرفأ حيفا من تحت رماد مرفأ بيروت؟
في دولتنا لا يصل ويتأصّل في الحكم إلّا الشراشيح، وقد يكون من معايير التحكّم بمصائر الناس هو أن ينجح الحاكم أو المسؤول في امتحان رسمي وشعبي للشراشيح، فإن رَسب سيكون حكمه قصيراً ويتعرض للتنكيل من كل حدب وصوب، وإن نجح سيتمكن من الاستمرار لأطول مدة ممكنة في موقعه. هذا يعني أنّ الفجور واللسان السليط هما من الصفات الأساسية لكثيرين من الراغبين في البقاء من أهل السلطة. فالشرشحة سلاح بسلاحين، فمن جهة يردع شرشوحاً آخر عندما يبدأ بفضح المستور، ومن جهة أخرى يرهب من هو غير شرشوح، ولكن سَوّلت له نفسه أن يصبح بطلاً باتهام الشرشوح بما هو فيه، فتنهال عندها على البطل المسكين لواذع الألفاظ وأسفلها، وأحياناً تستنفر عليه مئات الدراجات النارية غير المسجلة في الدوائر الرسمية، والمستوردة خصيصاً، بلا رسوم لخدمة مصالح الشرشوح الحاكم. أو يفلت القبضايات من تيار الشرشوح، كما سمّاهم قائدهم، لقمع «زعران» يتهمون الشرشوح بأنه شرشوح.
في دولتنا لا يصل ويتأصّل في الحكم إلّا الشراشيح، فإن رَسب سيكون حكمه قصيراً ويتعرض للتنكيل من كل حدب وصوب، وإن نجح سيتمكن من الاستمرار لأطول مدة ممكنة في موقعه
في الأسبوع الماضي مرّت شرشحة مجلجلة، ولكن من دون أن تثير كثيراً من الجدال بين الناس، فقد تكسّرت النِصَالُ على النصال فوق جسد الوطن المثخن بالحرائق والفضائح والكورونا، ولم يعد أحد تثيره فضيحة جديدة على مسلسل الفضائح.
الفضيحة كانت عندما تحدث رئيس الجمهورية عن الفساد في وزارة المال والرشى التي يتقاضاها البعض. المثير للاستهجان هو أن يتحدث رئيس الجمهورية عن هذا النوع من الشرشحة، بدلاً من أن يذهب ما لديه من معلومات الى القضاء المختص ليحقق فيها. فهذا الذي أتى على صهوة حصان الإصلاح والتغيير ومحاسبة الفاسدين وطرد تجّار الهيكل، لا يمكن أن يكون مجرد شاك وباك وهو يقول انه «الرئيس القوي». لكن لا عتب، فالتشكيلات القضائية ما زالت محفوظة في درج الرئيس، وربما هو ينتظر أن يأتي بقضاة جدد ليحكموا له كما يشاء. أما الخطير والمقزّز للأنفاس، فقد كان رد وزير المال بشرشحة مماثلة، لا بل تزيدها أضعافاً مضاعفة، متحدثاً عن «شنط» المال التي كانت تصل الى القصر الجمهوري. ومن بعدها توقّف مسلسل الشرشحة، فتوقف عن كشف المستور، «فمن كان منهم بلا خطيئة؟». فلا عرفنا عمّن تحدث الرئيس، ولا أفصَح الوزير عن تفاصيل «الشنط» ومن أرسلها، وعن أي ملف حملت هذه «الشنط»؟
ما يمكن استنتاجه هو أنّ الإثنين كانا على حق في ما قالا، ومن لا يعجبه الشرشحة فما عليه إلّا أن يترك البلد ويهاجر
لم يسعَ لا الرئيس ولا الوزير، ولا من وراء الوزير للرد أو التفسير، أو تفنيد التهم الشنيعة. ما يمكن استنتاجه هو أنّ الإثنين كانا على حق في ما قالا، ومن لا يعجبه الشرشحة فما عليه إلّا أن يترك البلد ويهاجر.
أما الجزء المرتبط بالتماسيح، فقد كان في كلام «ولي عهد الرئيس». وعندما نتحدث عن التمساح نتذكر دائماً أنّ جلده سميك فلا يتأثر بشيء، وأنه أيضاً يذرف الدموع عندما يبتلع فريسته. البارحة خرج علينا «ولي العهد» متحدثاً كأنه يطل للمرة الأولى على الناس، أو كأنّ الناس مجرد مجموعة «مساطيل» ستصدّق الدموع التي يحاول جاهداً دفعها للخروج! لكن من صفات المحتال الناجح هو أنه يرمي أحابيله من دون أن يرف له جفن! فجأة أصبح «ولي العهد» المتحدث الرسمي بإسم ماكرون وحامل لواء مبادرته. حتى أنه حاول إقناع الناس بأنّ هذا المشروع هو مَن أوحى به إلى الرئيس الفرنسي، كما أنه هو نفسه مشروع تياره الذي «ما خَلّوه» أن ينجزه. أمّا الجزء الآخر، فهو محاولة الاستلحاق بنسبة الذات للمشاريع الدولية ومشاريع السلام والحيادية، محاولاً أن يسوّغ انغماسه في مشروع «حزب الله» الإقليمي على أساس أنه مسؤول فقط عن الجزء المتعلق بإسرائيل والإرهاب. مع أنّ تفاهم تياره التجاري مع الحزب كان قبل عِقدٍ تقريباً من ظهور الإرهاب الذي يتحدث عنه. كما أنّ هذا العقد، الذي يحاول اليوم التنصّل منه، تجاوز واقع أنّ «حزب الله» في الأساس بنى شهرته على كثير من الإرهاب، ولم يتنصّل منه «ولي العهد» حتى عندما صار معروفاً أنّ الحزب مسؤول عن اغتيال رفيق الحريري، ومتّهم بدماء العشرات من القادة في لبنان. ولم يقل شيئاً عن انغماس الحزب في الحروب في سوريا والعراق واليمن، ولا عن عمليات الإرهاب في الكويت ومصر وبلغاريا… المصيبة النكداء هي في كون البعض ما زالوا حتى اليوم يرون فيه ما هو غير صفات التمساح، أمّا البقية من اللبنانيين الواقعين بين شر الشراشيح والتماسيح فما عليهم إلّا تكرار قول المتنبي:
«وما مقامي بأرض نخلة إلّا كمقام المسيح بين اليهود».
*نقلاً عن الجمهورية