النشيد الوطني اللبناني الذي لم يولد بعد

2020-11-21

النشيد الوطني اللبناني الذي لم يولد بعد


بقي النقاش حول أصالة النشيد الوطني اللبناني مفتوحاً، ولم يصل الجدل فيه إلى نتائج حاسمة ونهائية كما هو حال أمور كثيرة في البلد.

 يعرف الجميع القصة المدرسية الشائعة حول ولادة هذا النشيد رسمياً عام 1927 بعد مسابقة حكومية فاز فيها نصّ رشيد نخلة الذي لحّنه لاحقاً وديع صبرا، وخرج إثرها إلى النور نشيد “كلنا للوطن للعلى للعلم” المعتمد حالياً.

وكانت قد ظهرت منذ فترة قصة تؤكّد أنّ لحن هذا النشيد منسوخ حرفياً عن نشيد جمهورية الريف المغربية التي تأسّست عام 1921، واعتُمد نشيد بطل الريف من تلحين محمد فليفل في عام 1924 كنشيد رسمي لها، أي قبل ظهور النشيد الوطني اللبناني بثلاث سنوات.

وعلى الرغم من جهود الفنان غسان رحباني، الذي كان قد أعلن أنه اكتشف السرقة للتأكيد على فداحة الأمر، ومطالباته بتغيير النشيد، واعتماد نشيد آخر مكانه، وتصريحاته التي اعتبر في أحدها أنّ خطورة الأمر تماثل شعور طفل يكتشف فجأة أنّ والدته ليست والدته فعلا، إلا أنّ الموضوع لم يلقَ اهتماماً جدّياً، بل جرى تلقّيه على طريقة فضائح علاقات الفنانات والراقصات.

يعرف الجميع القصة المدرسية الشائعة حول ولادة هذا النشيد رسمياً عام 1927 بعد مسابقة حكومية فاز فيها نصّ رشيد نخلة الذي لحّنه لاحقاً وديع صبرا، وخرج إثرها إلى النور نشيد “كلنا للوطن للعلى للعلم” المعتمد حالياً

عملية البحث عن فضيحة النشيد وتحويلها إلى قضية عامة باءت بالفشل، كما أنّ رفض الفنان مارسيل خليفة تقديمه في احتفالات بعلبك الدولية واستبداله بمقطوعة موسيقية من تأليفه، اعتبر في نظر الكثيرين موضع ترحيب. والأمر نفسه ينطبق على نشيد “كلنا للعماد” الذي لعب على لحن النشيد الوطني مغيّراً كلماته إلى كلمات تمجّد العماد عون.

إنجاز نشيد وطني لا يكتمل بتأليفه وتلحينه وتقديمه في المناسبات الرسمية وتكراره واعتماده، بل يحتاج قبل كلّ شيء إلى عنصرالإجماع العام التام والنهائي. أيّ خلل في هذه البنية الأساسية تجعله مشروعاً قيد الدرس وناقصاً على الدوام.

النقاش الأصوب على مشارف مئوية هذا البلد الوليد والحديث، ليس البحث في إذا ما كان نشيده الوطني مسروقاً أو أصلياً، بل البحث حول مدى توفّر العناصر التي تجعل من وجود نشيد وطني ممكنة.

الأسئلة التي لا مفرّ من طرحها في هذا المجال، تتعلّق بماذا يعبّر أو ماذا يصف، وإلى من يتوجّه، وكيف يُستقبل.

سبق للشاعر عباس بيضون أن سجّل ملاحظة ثاقبة حول كلمات النشيد حين لاحظ خلوّها من الأفعال، وتالياً فإنها تتحرّك في حدود وصف الأحوال وتحديد السّمات من دون الانتقال إلى الفعل. وبذلك، يكون قد فتح الباب أمام الإجابة على سؤال: “ماذا يصف النشيد؟”.

إنّه ببساطة يقدّم معرضاً للأسماء والصفات والأماني، ويبني متحفاً للآمال والطموحات والخيالات، تكمن وظيفتها في تعزيز الصورة التي وسمت لحظة نشوء هذا البلد. يمكن ربط ما أسّست له هذه اللحظة بجمالية الهشاشة والقوة الناتجة من الحاجة إلى الرعاية.

من نافل القول التذكير إنّ هذا المنطق نما واتسع وتحوّل إلى خطاب متكرّر، يعلن على الدوام أنّ قوة البلد في ضعفه.

لم يكن الموضوع مجرّد كلام مكتوب في نشيد، حرص أصحابه على منحه وظيفة العمومية والشمولية، بل كان تحديداً لطبيعة سير الأمور في بلد محكوم عليه بالإقامة الجبرية في وضعية الجمود، بما تعنيه من استحالة حسم شؤون هويته ووظيفته ودوره، والبقاء في سجن النكايات والالتباسات.

كلّ النزاعات التي مرّت عليه منذ ظهور النشيد، لم تنجح في خلق أيّ بنية حاسمة في أيّ شأن، بل بقيت حالة الأزمة المفتوحة سمة لا يختلف اثنان على أنها تحدّد بدقة شبكة العلاقات  اللبنانية الداخلية بين كافة المكوّنات والتيارات والأحزاب والطوائف. وتالياً، فإن نشيده يتماهى في ظلّ غياب الأفعال، بما تعنيه على المستوى الدلالي من تغيير وتحوّل، مع هذا الوضع ويعبّر عنه.

النقاش الأصوب على مشارف مئوية هذا البلد الوليد والحديث، ليس البحث في إذا ما كان نشيده الوطني مسروقاً أو أصلياً، بل البحث حول مدى توفّر العناصر التي تجعل من وجود نشيد وطني ممكنة

الأناشيد الوطنية تولد بالارتباط الوثيق بالحماسات العمومية التي تذوب معها الخصوصيات. لا يمكن خلال الحديث عن استقبال نشيد وطني على المنوال نفسه الذي نقيس به نجاح فنان أو أغنية أو فيلم أو مقطوعة موسيقية.

 لا يمكن استعمال صيغة الجمهور في هذا الصدد، بل لا بد من توفّر صيغة الشعب أو الأمة.

الشعوب المنتشرة على امتداد الجغرافيا اللبنانية المأزومة تمتلك أناشيدها الوطنية الخاصة، التي تثير في نفوس المنتمين إليها كلّ سمات الحماسة والعمومية الضروريتين لنشوء نشيد وطني، بينما يقبع النشيد الرسمي في دائرة العجز عن صناعة المعاني والتأثير.

إقرأ أيضاً: ريما الرحباني: “بيي” أقوى من عبد الوهاب

يعيش البلد حالياً لحظة سقوط كلّ أساطيره سياحياً وثقافياً وأمنياً واقتصادياً. ولعلّ الأسطورة الأبرز التي سقطت مؤخراً، كانت أسطورة المقاومة والممانعة التي كشفت عن وجه الغلبة العارية بوصفه عنواناً نهائياً لمشروعها ودورها.

بناءً عليه، لا يمكن للنشيد الوطني أن يوجد، فهو يتنفس أوكسيجين الأساطير العمومية. ولبنان قد بات مؤخراً مفتقداً للأساطير العمومية وعاجزاً عن صناعتها في حين يغرق بالأساطير الخاصة.

انفجرت في وجهه الوقائع الكارثية دفعة واحدة كاشفة عن فراغ شامل يهدّد بقاء الوطن، فكيف بنشيده.

النشيد الوطني اللبناني ليس مسروقاً أو أصلياً، ولكنّه لم يولد بعد.

مواضيع ذات صلة

عمليّة “البيجر” و”اللاسلكي”.. أميركا نصحت وإسرائيل نفّذت

ما يوصف بالخيال العلمي سينمائياً يصبح واقعياً في الكثير من المجالات، ومنها العسكري، فيتسبّب بآلامٍ ومآسٍ. هذا ما شهده لبنان المصدوم، الثلاثاء والأربعاء الماضيين، باستخدام…

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…