بدا ميشال عون ذاهلاً عن نفسه وهو يخاطب الصحافيين في قصر بعبدا بجملة “أنا العماد ميشال عون”. ما زال الرجل يصدق أنه يمثل شيئًا في الوجدان المسيحي، بالمعني السياسي للكلمة. وما زال يعتقد أن للسيرة المديدة مكاناً في لبنان 2020، الذي انهار اقتصاده وعملته الوطنية وتبخر ثلث عاصمته، وأيّ ثلث.
أصاب التفجير كل اللبنانيين. لكنّه اصاب المسيحيين في الصميم الوجودي.
إقرأ أيضاً: لبنان مصنعاً للتفاهة السياسية
فالمناطق التي دمرت، مار مخايل، الجميزة، الجبل الصغير الاشرفية، وما بينها من شوارع وأزقة وبقايا بيروت الحلوة، هو عقر الدار الوجودي للطبقة الوسطى المسيحية وما فوق، والشريحة الأكثر مدينية وانفتاحاً.. والصورة الأدقّ عن اللبنان الذي يحلم به أغلبية اللبنانيين، بكوزوموبوليتيته، ومقاهيه، وكاليرهاته الفنية وباراته، وبيوته وناسه وطلابه وأجانبه المصابين بسحر بيروت المتوسطية!
بالنسبة للمسيحيين أولاً، وقبل غيرهم، بدا الانفجار هو انفجار الفقاعة العونية نفسها بكلّ أمراضها وأعراضها ومشاكلها.
خسرت العونية أولى معاركها الرئيسية حين انتُخب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، بالاضافة إلى خسارتين نيابيتين مهينتين للوريث جبران باسيل
عاد الجنرال المنفي على صهوة الخسارات العسكرية والشخصية، عام 2005 هادراً بتسونامي السبعين في المئة. ركب موجة مسيحية عالية عطشة للدور والحضور بعد 15 عاماً من الاحتلال السوري الذي وجد المسلمون اللبنانيون في ظله مساحات لا بأس به للوجود والفعل السياسيين.
في عمق الأشياء، تكوّنت العونية السياسية كردة فعل سوسيو – سياسية على التهميش وتغذّت من إحباط المجتمع المسيحي الذي شارك المسلمون في صناعة شروطه، من حيث أرادوا أو لم يرِيدوا.
لكنّ الجنرال العائد، لا يملك في قاموسه مفردات الغفران أو المستقبل. مزيج من الحقد والنزق والذاكرة المتقدة العالقة في ما مضى.
سرعان ما شغّل الجنرال عون مدافع خطاباته السياسية. تخفّف كثيراً من خطاب المنفى حول سلاح ميليشيا حزب الله وسوريا الأسد، التي لعبت دورًا مهماً في عودته. تفاهم مع ميليشيا حزب الله وبدأ يوسّع موقعه ضمن محور إيران متصدراً تغطية جرائمها بحقّ لبنان واللبنانيين، لا سيما جريمة السابع من أيار 2008.
ما سهّل حساباته أنّ حزب الله لم يكن أساسياً في التركيبة اللبنانية التي تمتعت بحكم لبنان في ظلّ نفيه وهي الثلاثي جنبلاط، بري، الحريري (الأب) مضافاً إليهم كلّ مسيحي سوّلت له نفسه أن يتعامل مع الثلاثي الإسلامي.
خسرت العونية أولى معاركها الرئيسية حين انتُخب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، بالإضافة إلى خسارتين نيابيتين مهينتين للوريث جبران باسيل. إذاك راحت العونية تعد العدة للمعركة المقبلة بالتوازي مع تبلور الباسيلية كتنويع جديد على العونية، يفوقها وقاحة، لكن يقلّ عنها مشروعية بما لا يقاس.
ثبتت الباسيلية السياسية دعائمها بتصدّر جبران واجهة إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وهو يهمّ بالدخول للقاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وعزّزت حاجة ميليشيا حزب الله اليها بالانخراط الكامل في تغطية المشاركة في المذبحة السورية التي كان مقابلها رعاية ميليشيا حزب الله للفراغ الرئاسي حتى يصل عون إلى بعبدا.
لم تغادر العونية السياسية، لا في نسختها العونية الصرفة ولا في انحدارها الباسيلي الرذيل، مربّع الانتقام والسلبية ولعبة السلطة وبازار توزيع المغانم، الصغيرة والكبيرة، حتى إذا جاء الانفجار الشعبي الكبير في 17 تشرين، صارت شتيمة جبران باسيل نشيداً للثورة والثوّار، وصار الرجل، قليل القامة، عدوّاً شعبياً أولاً للشبيبة المنتفضة.
ما حصل يوم السبت في بيروت، هو تأكيد على المؤكّد وتجديد لإعلان الوفاة الشعبية للعونية السياسية، وهي في أحقر نسخها وأكثرها ابتذالاً، على ما تدلّ بعض الاشتباكات الاهلية التي تصدّرها بعض أزلام جبران باسيل على الهواء.
هدمِ المنظومة السياسية، بكاملها، ومن دون استثناء أي اسم من التركيبة الحالية، تبدأ في بعبدا، وإخراج عون من حياة اللبنانيين ومستقبلهم
لم يبلغ التجرّؤ على رئيس البلاد ما بلغه خلال اليومين الماضيين. ولم يتعرّض رئيس لما تعرّض له ميشال عون، بما في ذلك الرئيس الأسبق إميل لحود.
من هنا تبدو غريبة تلك الدعوات القاصرة، الداعية مرّة إلى تقصير ولاية المجلس وإحراز انتخابات نيابية مبكرة، ومرّة إلى استقالة الحكومة.
هدمِ المنظومة السياسية، بكاملها، ومن دون استثناء أيّ اسم من التركيبة الحالية، تبدأ في بعبدا، وإخراج عون من حياة اللبنانيين ومستقبلهم.
المخاوف الكلاسيكية حول ضرورة أن يتصدّر المسيحيون هذه المعركة لا وزن لها إلا في العقل السياسي الكلاسيكي الذي لم يفهم بعد ما يحصل في الشارع.
معيار الوطنية الوحيد اليوم هو الموقف من ميشال عون، بصفته ليس رأس الجمهورية بل رأس النظام الذي يقوده حزب الله، بالتعاون والتنسيق مع كامل المنظومة السياسية، لا سيما قادة الوسط الإسلامي السنّي والشيعي والدرزي، الذين ما عادوا قادرين على التفريق بين رفعة الحكمة وانحطاط الجبن.