تحرص معظم وسائل الإعلام ومنصات بث الأفلام على وضع تحذيرات في حال وجود عنف في المحتوى الذي تقدمه، وبأن هذا المحتوى غير مناسب للأطفال. والهدف طبعاً تجنيب الأطفال ثقافة العنف التي تتفشى في كثير من المجتمعات، في الشرق والغرب على السواء. لكن هذه التحذيرات تصبح مضحكة إذا ما تمعّن واحدنا في مضمون الاغنيات المخصصة للأطفال التي تبثها وسائل الإعلام ومنصات الأفلام ويوتيوب وساوند كلاود وغيرها. يحضر العنف في كثير من هذه الأغاني بشكل فاضح ومباشر. تحمل هذه الأغنيات في بطونها سكاكين وأسلحة وتهديدات بالضرب والعنف والقتل وسفك الدماء، فضلاً عن الجنس.
إقرأ أيضاً: طرق “مبتكرة” للتعذيب: عن وحشيتنا… الإنسانية!
لنبدأ من الأقل عنفاً، من الأغنية الأشهر التي تعرفها الأجيال من الصغير إلى الكبير، أغنية “ذهب الليل طلع الفجر” التي كتبها الشاعر المصري الشهير حسين السيد ولحنها وغناها محمد فوزي ويتحدث في أحد مقاطعها عن فيفي التي “زعلت من سوسو، وراح يصالحها وباسها وهي حلفت ما تبوسوا”، إلى أن ينتهي الأمر إلى: “سوسو ضربها ومسك الحبر اللي فايدها وقلبه على فستانها وشافهم بابا وضربها وضربه”. ضربهما بابا. بهذه البساطة. وقد يقول قائل إن ضرب الاهل لم يكن يصنّف كأمر مستهجن أو ممنوع، وهذا صحيح، لكن ذلك لا ينفي حضور مفهوم العنف الأبوي في الأغنية. وقد أعيد إنتاجها في أيامنا هذه بتوزيعات جديدة، وهي تشجع كما هو واضح، ولو من باب “تقليدي” على العنف الأبوي الذي يُفترض أنه صار من الماضي. لكن دعكم منها. هذه بسيطة. ماذا عن أغنية السيدة فيروز الشهيرة التي تغنيها لابنتها ريما، لتشجيعها على النوم؟ تقايض فيروز ابنتها على النوم في مقابل أن تذبح لها طير حمام، ثم ما تلبث ان تُطمئن الطير، إنها لا تتحدث بجدية: “روح يا حمام لا تصدّق منضحك عريما تتنام”. أيّ أم تقوم بهكذا مقايضة مع ابنتها؟ تنامين، فأذبح لك طير حمام! يعني تخايلوا أن الابنة تستسلم للنوم لمجرد أن ذبح طير الحمام يغريها! ما هذا؟! أو على ما يقول معمّر القذافي: “من أنتم؟”.
ثقافة العنف التي تتفشى في كثير من المجتمعات، في الشرق والغرب على السواء
هذا شأن ليس عربياً، فلو ذهبنا إلى الأغنيات الفرنسية المخصصة للأطفال، والفرنسيون رومانسيون في طبعهم، نعثر على ما هو أفظع. هذه أغنية على الغالب معظم من لديهم أطفال يعرفونها(هناك نسخة انجليزية منها)، عن تمساح ذاهب إلى الحرب ويودّع أطفاله، منشداً نشيداً عسكرياً ماضغاً الكلمات بأسنان ضخمة، وحينما يفتح فمه بالكامل يخيّل إلينا أننا نرى أعداءه في الداخل! أنقل المقطع بالفرنسية حرفياً لمزيد من التأكيد:
Il fredonnait une marche militaire
Dont il mâchait les mots à grosses dents,
Quand il ouvrait la gueule tout entière
On croyait voir ses ennemis dedans.
بالفرنسية أيضاً، هذا المقطع، من أغنية شهيرة يعجّ بها يوتيوب ويحبها الأطفال كثيراً:
Promenons-nous dans les bois
Pendant que le loup n’y est pas
Si le loup y était
Il nous mangerait
Mais comme il n’y est pas
Il nous mangera pas.
هذه اغنية تحاكي قصة “ليلى والذئب” العنيفة بدورها، والتي تجعل من الذئب في الموروث الطفولي كائنا متوحشا (مع سرديات مماثلة عن الضبع)، فيما يمجَّد الاسد(على توحّشه بما أنه “ملك الغابة”) مثلا، او الدب(اللطيف؟!) في قصص الاطفال. وهذا موضع بحث آخر، لكن لماذا نغني لاطفالنا اغنيات ترميهم في درب الذئاب؟ ولماذا لا تكون النزهة في الغابة من دون احتمال حصول مجزرة؟
لماذا نغني لاطفالنا اغنيات ترميهم في درب الذئاب؟
حسناً قد تقررون أنكم بدلاً من ذلك، ستغنون لابنائكم أو بناتكم اغنية عن صبية بسيطة تذهب لقطف الفاكهة من الغابة من دون ان يعترضها الذئب، فتختارون بالفرنسية، “لن نذهب بعد الآن إلى الغابة Nous n’irons plus au bois “، وهي أيضاً أغنية فرنسية شهيرة نغنيها لأطفالنا. لكن مهلاً، من الضروري ان تعرفوا حكاية هذه الأغنية وخلفياتها: في القرن السابع عشر، كان البغاء منتشرًا في الغابة وظهرت بيوت “الدعارة” من خلال وجود شجر الغار على الأبواب. قرر لويس الرابع عشر حظر بيوت الدعارة هذه، على وجه الخصوص، لمحاربة انتشار الأمراض التي تؤثر على العمال الذين يعملون في حديقة فرساي. “أدخل الرقص، انظر كيف نرقص، نغني، نرقص، نقبّل من تريد” هو احتجاج على هذا القرار الملكي الذي يدعو بوضوح إلى التحرر.
وإذا كانت “الدعارة” تحضر في هذه الأغنية، فإن التعذيب بأبشع صوره يحضر في أغنية فرنسية أخرى هي ” Une souris verte, qui courait dans l’herbe”، وكلماتها هي التالية:
Une souris verte qui courait dans l’herbe
Je l’attrape par la queue
Je la montre à ces messieurs
Ces messieurs me disent :
trempez la dans l’huile,
trempez la dans l’eau
Ça fera un escargot tout chaud
في ترجمة سريعة: فأر أخضر يركض على العشب، يمسكه (الطفل؟) من ذيله، ويغطّسه في الزيت ثم في الماء، ليصير حلزوناً ساخناً.
وفقًا للأسطورة، يشير الفأر الأخضر إلى جندي ملكي(فونديه). يُزعم أن الجنود الجمهوريين طاردوه أثناء الحرب الأهلية التي اندلعت بين الجمهوريين والملكيين خلال الثورة الفرنسية ومارسوا عليه التعذيب. يضعون الفأر في الماء الساخن ليصير “حلزون(بزاق) مسلوق”. لا يحتاج الأمر إلى خيال واسع للتنبه إلى رعب المشهد!
عنيف جداً؟ حسناً، دعونا نعود إلى عالمنا العربي، لننهي هذه المقالة. عيد الأضحى بات قريباً. هل تتذكرون ما هي الأغنية المرتبطة بعيد الأضحى التي يغنيها الأطفال في بعض البيئات العربية؟
“بكرا العيد ومنعيّد ومنذبح بقرات السيد، والسيد ما عنده بقرة، منذبح بنته هالشقرا، والشقرا ما فيها دم، منذبح بنته وبنت العم”.
بنته وبنت العم؟! هذه ليست أغنية. هذه مجزرة!