كانت رسالة مفعمة بالتلميحات والتصريحات، غير المباشر منها أدق مما هو مباشر، وحتى التوجيه المباشر إلى الحزبيين خاصة وإلى المؤمنين بهذا الخط عامة، تضمّن معاني كثيفة تستحق الوقوف عندها لاستخبار المشهد على نحوٍ شامل، فتبدو الأسباب والنتائج، الوسائل والعوامل. فمن يتأمل هذه الرسالة تنكشف له الحُجب، وترتفع من خلالها الأستار. هذا هو فحوى الخطاب باختصار، خطاب أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، لدى إعلانه الحرب على كورونا.
وبما أن الخطاب كان بالغ الجدّية، فقد دوّن السيد نصر الله ملاحظات، فعاد إليها مراراً، بالنظر إلى ما يتصف هذا الخطاب من أهمية بالغة، ككل الخُطب التي هي على القدر عينه من الخطورة، كما كانت في مختلف الحروب والمواجهات. فانقسم خطابه إلى قسمين: الأول مرتجل يحمل نوع السجال السياسي والتبرير الخفيّ بامتياز، وهذا ما سيُلمح لاحقاً، وإن كان السيد أكد كثيراً على عدم رغبته في ذلك. والثاني متعمّد ومقصود بذاته، حرفياً ودون مواربة أو تأويل، لأنه توجيهي مباشر.
إقرأ أيضاً: سماحة المفتي ماذا تنتظر؟
ففي القسم الأول، بدا أمين عام حزب الله، وكأنه يستدرك على من تكلّم فأفاض في الأسابيع القليلة الفاصلة بين أول طائرة إيرانية حطّت في بيروت، بعد انتشار الأنباء الأولى عن الكورونا في إيران، وإلى وصول آخر طائرة إيرانية قبل أيام قليلة من خطابه، بعد أن فشا الفيروس وصار وباء، متعلّلاً بما وقع من استسهال واسترخاء في دول العالم الأول، من أوروبا إلى الولايات المتحدة، حتى باتت القارة القديمة بؤرة لكورونا، مع احتمال لحاق الولايات المتحدة بها، وكأنه يبرّر انتشار الفيروس في إيران، والتأخر في التصدي له في لبنان. فهذا العدو المستجدّ، مجهول في أصله وفصله، وما زال من المناكير المجاهيل. ولو كان العالم يعلم حقاً، خطورة الفيروس منذ البدء، لاتخذ أشد التدابير، ولما توانى لحظة واحدة. لكن حتى التجربة الصينية التي يُشاد بها الآن، بوصفها نموذجاً قميناً بالاقتداء به، سبقها تأخر غير معقول في إدراك الخطر أو إعلانه، أو هو استئخار للكارثة كما فعلت دول كثيرة متقدمة وغير متقدمة خوفاً على مصالح وحسابات، فأصبحت الصين بؤرة عالمية وكلّفها ذلك غالياً جداً في الأنفس والأموال، وهذا بالضبط ما وقع في إيطاليا وإيران، وربما في بريطانيا والولايات المتحدة وفي غيرهما من البلدان.
البيئة المتدينة في لبنان كما في إيران، فضلاً عن ساحات التدين في بلدان أخرى، كانت عصيّة نسبياً في الانصياع للإرشادات المطلوبة لمواجهة هذا الوباء الخطير
وفي القسم الثاني من الخطاب، يعالج السيد نصر الله مسألة الاستسلام للوباء في البيئة المتدينة على وجه الخصوص، وكل البيئات الدينية تتشابه في قضية التسليم والاستسلام، والتوكل أو التواكل، من باب أن هذا السلوك جزء لا يُجتزأ من الإيمان نفسه، أي أن تكون مسلّماً أمرك لله. فكان سرد لحجج وأدلة وفتاوى، لإقناع المتابعين والمريدين، بوجوب الالتزام التام بإرشادات وتوجيهات الجهات الرسمية المختصة، بشأن عدم التجمهر لأي سبب، حتى لو كان لتشييع أو عزاء، أو احتفال أو مناسبة، وأن هذا تكليف شرعي، يأثم من يتقاعس فيه أو يتغافل عنه، لأنه يهدد الأنفس بخطر الموت. حتى الهروب من المدينة إلى القرى، لا يحلّ الناس من واجب الالتزام، فالانتشار كما هو في الأماكن المكتظة فكذلك في المساحات الحرة، منتقداً تحويل العطلة الإلزامية إلى رحلات ونزهات عائلية، فالوقت ليس وقت سياحة. إنما نحن في حرب حقيقية ضد عدو جديد وغريب، وعلينا فعل أي شيء واعتماد أي احتراز، من أجل التوقي منه والقضاء عليه في نهاية المطاف.
ما يعني هذا من مفهوم المخالفة؟
معناه ببساطة، أن البيئة المتدينة في لبنان كما في إيران، فضلاً عن ساحات التدين في بلدان أخرى، كانت عصيّة نسبياً في الانصياع للإرشادات المطلوبة لمواجهة هذا الوباء الخطير من جهة، والسهل احتواؤه من جهة أخرى. وهذا ما أدى إلى الانتشار من حيث كان يمكن تدراكه مبكراً، وحصره في مناطق أو جهات، بدلاً من تغلغله عشوائياً بحيث لا يمكن تصوّر حجمه الآن، فيتعذّر اتخاذ الإجراءات الموازية لمواجهته بشكل فعّال.
ولعلّ من اللافت جداً في خطاب الأمين العام، أن استعمل من بداية كلامه إلى الانتهاء، مصطلحات عسكرية محضة، لتوصيف الفيروس كعدو، وتصنيف أدوات المجابهة والمقاومة، كجيش فيه طليعة وميمنة وميسرة ومؤخرة وقوات احتياطية، واستشهاديون في المقدمة هم في هذه الحالة، الأطباء والممرّضون، بدلاً من قوات الصدم والاقتحام. لكن هذا الاستعمال الكثيف لأدبيات المقاومة المسلحة في مواجهة جرثومة جديدة ليس من دون معنى أو مغزى، وليس أسلوباً بلاغياً مجازياً وحسب. إنه باختصار مفيد، استنفار عسكري من الدرجة الأولى، ضد عدو مجهول برز فجأة من دون مقدمات.