كلنا صرنا أزلام أميركا. مجموعة من العملاء الصاغرين الذين باعوا جماجمهم وقضيتهم وبلادهم لقاء حفنة من الدولارات. صار الشيعة المعارضون أزلام سفارات. واستحال الوطني الشجاع الذي يطالب بالعبور إلى دولة سوية وعادلة، مجرد أداة تستحقّ القتل والشطب وتحسّس الرقاب. وقفنا جميعًا في طوابير فحص الدم، وكأنّنا أمام مصفاة تفرز الوطني عن الوضيع، وأمام منظومة تمتهن التوقيع على شهادات حسن السيرة السلوك.
استخدمتنا أميركا لتهزم حزب الله، بعد أن ضاقت به ذرعًا. حاولت عبر إسرائيل في معركة وملحمة حامية الوطيس، لكنها فشلت وخسرت وخسئت وارتدّ الكيد إلى نحرها، بعد أن مرمغ رجال الله أنفها في مارون الراس والعديسة وبنت جبيل. ثم حاولت عبر العرب. دولٌ بقدّها وقديدها تجنّدت في ركب القضاء على حزب الله. وقد هاجموه في مناطقه ومدنه وقراه، وشتموا زعاماته ومرجعياته ورموزه، ثم دفعوا مليارات الدولارات لضربه وسحقه والإجهاز عليه. لكنّهم فشلوا وهُزموا شرّ هزيمة.
إقرأ أيضاً: لاريجاني في ترويقة فينيسيا: الدعمُ آتٍ
نحن الطلقةُ الأخيرة. لم تكن أميركا لتملك غيرنا في حربها الضروس. استخدمتنا على نحوٍ مخادع ومباغت، ثم تركتنا بعد أن تلقّنت درسًا لن تنساه. كنا نظن مثلاً أنّ جبران تويني كاتبٌ ألمعيّ لمّاح ينتمي إلى زمن العقل والشجاعة والموقف، لنعود وندرك متأخرين أنه أداة تخريبية زرعتها أميركا لكسرنا وضربنا واستهدافنا، ولذلك كان لا بدّ من توزيع البقلاوة فوق جثته. وما ينطبق عليه ينطبق قطعًا على كوكبة غفيرة من المُضَلّلين. منذ مروان حمادة، الشهيد الحيّ، إلى محمد شطح، مرورًا برفيق الحريري وبيار الجميل وجورج حاوي ووسام الحسن. جميعهم كانوا عملاء، لكنّنا لم نكن نعرف.
هنا هُزمت أميركا. كُسر مشروعها وتحطّمت صورتها في هذا البلد الصغير. لم تترك وسلية إلا واستخدمتها، لكنّ الخيبة كانت نصيبها في كل مرة. آخر تلك المرات يوم تجرأت بحماقتها وعجالتها وتسرّعها على قتل قاسم سليماني، أيقونة المقاومة وفارسها وفتاها الأغرّ، فتلقّت الضربة تلو الضربة، من المحيط إلى الخليج، ثم أتتها الصاعقة من بيروت، يوم أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إطلاق حملة المقاطعة الشاملة، لكل البضائع وكل المنتجات والثقافات والعلاقات.
وتحوّلنا جميعًا، وعلى رأسنا أشرف الناس وأكرم الناس، إلى مجموعة من المتسولين الذين يقفون بالطوابير أمام المصارف ليأخذوا فتات أموالهم
تذكرت أميركا مؤخرًا أنّ عُملتها هي جيش العالم. وأنّ ضربة واحدة من أصغر مسؤول في خزانتها، قادرة على هزّ دول وإسقاط أنظمة وبعثرة كيانات. خبطت على رأسها: كان يمكن أن أتفادى كلّ هذه الحماقات والتجارب. كان يمكن أن أوفر حياة العشرات بل المئات والآلاف من الذين سقطوا بلا نتيجة أو أفق. كيف لشيء كهذا أن يفوت دولة عملاقة؟ وكيف لنا أيضًا ألا ننتبه لهذه الثغرة الفظيعة؟
اليوم كلّنا رهن الدولار. بل رهن الصرّاف الذي يحدّد سعر صرفه. هزمتنا أميركا دون جهد أو عناء. صار راتب الموظف نصف ما كان من قبل. وتحوّلنا جميعًا، وعلى رأسنا أشرف الناس وأكرم الناس، إلى مجموعة من المتسولين الذين يقفون بالطوابير أمام المصارف ليأخذوا فتات أموالهم بعد ساعات من الذلّ والإهانة والانتظار.
يقول حزب الله في آخر مواقفه إن ثورة اللبنانيين وانتفاضتهم الوليدة لا تعدو كونها مشروعاً أميركياً جديداً يستهدف رأسه وسلاحه ووجوده، ونقول نحن: يا ليتك وفّرت علينا هزيمة أميركا من العام 2005، وارتضيت معنا أن تعبر إلى دولة تحترم شعبها وتقيم أفضل العلاقات مع محيطها والعالم.
الآن ما عاد ينفع الندم. فاتكم وفاتنا القطار. ولا شيء نريده منكم سوى التواضع بينما تهزمون أميركا للمرة المليون.