“بعد الاستقلال والحرب الأهلية والطائف، بدأ عصر جديد سمّوه عصر الإنماء والإعمار، عمّروا بيروت وهدموا طرابلس، تسلّموا لبنان عليه أقلّ من مليار دولار ديناً، وبدأوا بالاستدانة بالمليارات. هذا الدّين ذهب أكثر من 90 في المئة منه هدراً وفساداً إلى الجيوب والمحاسيب”.
هذا الكلام هو جزء من كلمة ألقاها النائب فيصل كرامي، خلال لقاء شعبي في طرابلس. خطاب كلاسيكي معتاد يتهجّم على رفيق الحريري، عبر مفردات مألوفة في البيت الكراميّ منذ سنوات طويلة. لكنّ ما هو غير مألوف أن يكون مَن نظّم اللقاء، ودعا الناس وحشدهم لاستقبال كرامي هو خلدون حجازي، أحد مفاتيح تيار المستقبل في الانتخابات الماضية.
ربّما هو اسم غير معروف لدى الكثير من الناس، لكنّه يمتلك حضوراً في “الحارة البرّانية”، أحد أحياء منطقة باب التبانة الأكثر اكتظاظاً، والحافلة بقصص الحرمان والتهميش والمعاناة التي تشهد عليها مبانيها المتلاصقة والمتداعية وأدراجها المتآكلة، الرابطة ما بين القبّة والتبانة.
“بعد الاستقلال والحرب الأهلية والطائف، بدأ عصر جديد سمّوه عصر الإنماء والإعمار، عمّروا بيروت وهدموا طرابلس، تسلّموا لبنان عليه أقلّ من مليار دولار ديناً، وبدأوا بالاستدانة بالمليارات. هذا الدّين ذهب أكثر من 90 في المئة منه هدراً وفساداً إلى الجيوب والمحاسيب”
هو اسم اكتسب حضوره وأهميّته من الدعم الذي وفّره له تيار المستقبل، ولا سيّما الأمين العامّ أحمد الحريري، وهو ما فعله مع سائر المفاتيح الانتخابية، خاصة الذين استطاع استمالتهم من فريق وزير العدل الأسبق اللواء أشرف ريفي.
فقد اعتمد الأمين العامّ لتيّار المستقبل على فريق كبير من المفاتيح الانتخابية أو رموز الشارع في الانتخابات الماضية في عام 2018، حتى يمكن القول إنّه أنشأ تياراً موازياً لتيار المستقبل، يأتمر بأوامره مباشرة، من دون المرور بأيّ مراكز قيادية أخرى، وأغدق عليهم الأموال والمنافع والخدمات، بشكل أثار حنق قيادات التيار وأدّى إلى هجرة بعضهم.
فلماذا يترك أحد هؤلاء، الذين يُطلَق عليهم اسم “مفاتيح انتخابية”، فريق أحمد الحريري للانضمام إلى فريق فيصل كرامي بالذات، بل ويقيم لكرامي أوّل احتفال شعبيّ يُفتَتح به موسم الانتخابات في طرابلس؟
إهمال الأمين
يقول خلدون حجازي في حديث لـ”أساس” إنّ أحمد الحريري بعد الانتخابات النيابية الماضية “أهمل الفريق تماماً، فلم يعد يردّ على اتصال أو يُلبّي خدمة لأحد، فيما الناس بحاجة إلى متابعة يومية. وأوكل متابعة هذا الفريق الكبير العدد إلى أحد معاونيه (ب.أ.)، لكنّ الأخير لم يقدّم لنا سوى الوعود الفارغة. وبينما كان الحال يزداد سوءاً يوماً بعد آخر، كنت أقف عاجزاً أمام أهلي في الحارة البرّانية. وفي مواجهة لامبالاة الشيخ أحمد، وجدتُ النائب كرامي يبادر مشكوراً ويعرض عليّ تلبية احتياجات الناس، خاصة على الصعيد الطبي، فكلفة العلاج أصبحت باهظة ولا يقوى عليها غالبيّة أهلنا”.
يتحدّث حجازي عن تسهيلات منحها له كرامي في “المستشفى الإسلامي الخيري”، وعن جهود كبيرة واتصالات على أعلى مستوى لحلّ قضيّةٍ شخصيّةٍ له. لذا وجد أنّه يتوجّب عليه ردّ الجميل لابن المدينة الأصيل، وسليل عائلة لها أفضالها على طرابلس.
ليس انتقال أحد المفاتيح الانتخابية من سياسي إلى آخر، بالأمر الجديد أو الاستثنائي، بل هو أمر معتاد في مدينة طرابلس، خاصة في الموسم الانتخابي، حيث يحاول السياسيون المتنافسون استقطاب الأكثر تأثيراً وحضوراً بين هؤلاء الرموز، من أجل تعزيز فرصهم في السباق الانتخابي.
اعتمد الأمين العامّ لتيّار المستقبل على فريق كبير من المفاتيح الانتخابية أو رموز الشارع في الانتخابات الماضية في عام 2018، حتى يمكن القول إنّه أنشأ تياراً موازياً لتيار المستقبل، يأتمر بأوامره مباشرة، من دون المرور بأيّ مراكز قيادية أخرى
زهرة التأثير
المفاتيح الانتخابية مختلفة ومتنوّعة، لكنّ الرابط المشترك بينها هو القدرة على إحداث تأثير في تصويت شريحة من الناس، تكبر أو تصغر حسب قدرات الشخص نفسه وقوّة حضوره وتأثيره.
أحد هؤلاء الأشخاص المؤثّرين، بل وربّما أبرزهم، هو محمد زهرة الشهير بـ”أبو خليل”، أحد أركان الماكينة الانتخابية الكراميّة الأساسيّين منذ أيام الرئيس عمر كرامي، الذي استطاع الأمين العامّ لتيّار المستقبل استقطابه إلى صفّه في الانتخابات الماضية، مُحدثاً يومئذٍ مفاجأة كبيرة.
لم يهضم النائب كرامي انضمام زهرة إلى فريق الحريري، لِما له من تأثير في الشارع، لذا عرض عليه عبر بعض الأشخاص العودة إلى ماكينته الانتخابية مقابل إغراءات رفضها زهرة. وقد وصل الأمر بكرامي إلى إلغاء تعاقد “المستشفى الإسلامي الخيري” مع مكتب الحريري للخدمات الصحيّة، وإصدار قرار يمنع زهرة من الدخول إلى حرم المستشفى الإسلامي بتاتاً مع تحريم التواصل معه من قبل الموظفين.
يقول بلال مسكي، أحد معاوني زهرة، في حديث لـ”أساس”، إنّ أبو خليل “أهمله الأمين العامّ تماماً بعد الانتخابات على الرغم من وفائه وإخلاصه. كلّ ما وعده به قبل الانتخابات لم ينفّذ منه شيئاً، فلا تقديمات ولا خدمات، مهما كان نوعها، ولم يعُد يردّ على اتصالاته ورسائله، وبالكاد حصل على بعض الحصص الغذائية التي وزّعها، والتي لا تفي بالحاجة. أبو خليل له حضور واسع في المناطق الشعبية في مدينة طرابلس، ويحظى باحترام باقي المفاتيح الانتخابية ورموز الشوارع والأحياء، والجميع يعرفون عنه اندفاعه في خدمة الناس”.
ويضيف مسكي أنّ زهرة “مستاء جدّاً من معاملة الحريري هذه، التي أحرجته كثيراً أمام أهله وناسه وبيئته، وقد وصلته عروض من مختلف الأطراف السياسية، من تيار الرئيس نجيب ميقاتي، ومن طرف الوزير جبران باسيل ومن ممثّلين عن حزب القوات، وحتّى من قبل أشخاص يمثّلون بهاء الحريري، لكنّه لا يزال يتريّث قبل اتّخاذ قراره النهائي في شأن مَن سيعمل له في الانتخابات المقبلة”.
المفاتيح الانتخابية مختلفة ومتنوّعة، لكنّ الرابط المشترك بينها هو القدرة على إحداث تأثير في تصويت شريحة من الناس، تكبر أو تصغر حسب قدرات الشخص نفسه وقوّة حضوره وتأثيره
السلطة ومغادرة “المفاتيح”
خرج أيضاً قبل مدّة أحد الناشطين (ب.ح.) في منطقة النجمة من الصفوف الحريرية، وتحوّل إلى ناقد شرس لتيار المستقبل وللرئيس سعد الحريري، وذلك للأسباب نفسها التي تحدّث عنها حجازي ومسكي.
حصل “أساس” على معلومات عن مفاوضات بلغت مرحلة متقدّمة بين تيار العزم وأحد المفاتيح الانتخابية للأمين العامّ لتيار المستقبل، وهو يملك نفوذاً وتأثيراً في منطقة شعبية تقع على تخوم الأسواق، وكان من جملة المفاتيح التي استقطبها الحريري من فريق ريفي قبيل الانتخابات الماضية، وكانت قد صدرت بحقّه مذكّرة توقيف لعبت دوراً مؤثّراً في انتقاله إلى جانب الحريري. وهو يحاول اليوم الحصول على ضمانات من رئيس الحكومة قبل إعلانه تغيير انتمائه السياسي.
تحرّك أحمد الحريري عقب مهرجان النائب فيصل كرامي، وتواصله مباشرة، من بعد غياب طويل جداً، مع بعض المؤثّرين والفاعلين على الساحة الشعبية، وتحديده مواعيد في الأسبوعين المقبلين لكلّ واحد منهم على حدة، على أمل إيقاف النزف في فريقه.
في هذا السياق، يلعب موقع السياسيّ في السلطة وقدراته الماليّة دوراً مهمّاً في جذب الرموز والمفاتيح الانتخابية، فكيف إذا اجتمع العاملان معاً؟ عندئذٍ يصبح استقطابهم أسهل وأيسر.
لم يكن أحمد الحريري لينجح ما بين عاميْ 2016 و2018 في تطويع عدد كبير من المفاتيح الانتخابية، لولا وجود الرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة.
لذلك يبدو أنّ الأمين العامّ لتيار المستقبل يواجه مأزقاً كبيراً في لملمة شعث فريقه. وفي ردّة فعل سريعة عقب مهرجان النائب فيصل كرامي، قام الأمين العامّ بالتواصل المباشر مع بعض المؤثّرين والفاعلين على الساحة الشعبية، وحدّد لهم مواعيد للاجتماع بكلٍّ منهم على حدة، على أمل وقف النزف في فريقه المتداعي.
لكنّ تلك المواعيد تمّ ترحيلها إلى أجل غير مسمّى، عقب الزيارة التي قام بها الأمين العامّ لتيّار المستقبل ووالدته إلى مقرّ إقامة الرئيس سعد الحريري، وما تلاها من تسريبات عن نيّة الأخير العزوف عن الترشّح بشخصه وتيّاره.
يقول أحد المفاتيح الانتخابية، التي تواصل معها أحمد الحريري، لموقع “أساس”، إنّ الأمين العامّ غاب عن السمع مرّة جديدة عقب عودته من زيارة الرئيس الحريري. ثمّ دخل أحمد هاشمية على خطّ التواصل مع المفاتيح الانتخابيّة للحريري، لكنّ الأمر لم يتجاوز اتّصالات هاتفيّة من مكتبه وعد فيها بتحديد مواعيد خلال الأسبوعين الماضيين، وهو ما لم يحدث.
بيد أنّ التحوّل الأبرز على الساحة الطرابلسيّة هو الدخول القويّ لحزب القوات على خطّ التواصل مع جميع هؤلاء الأشخاص، حسب المعلومات التي حصل عليها “أساس”، وتقديمه عروضاً سخيّة جدّاً بالدولارات الفريش. مع الإشارة إلى أن أحداث الطيونة لم تترك أثراً كبيراً في نفوس الطرابلسيين. لأن للقوات حساسية تاريخية في ذاكرة طرابلس لا يمكن القفز فوقها.
إقرأ أيضاً: الانتخابات النيابيّة في طرابلس: صورة ضبابيّة ولكن!!
النائب فيصل كرامي ليس بعيداً أيضاً عن استقطاب مفاتيح المستقبل، فهو يحاول مع بعضٍ منهم.
وقد انعكست حالة انعدام اليقين والشكّ في خوض الرئيس سعد الحريري الاستحقاق الانتخابي إرباكاً وتخبّطاً لدى تيار المستقبل والمفاتيح الانتخابية لأمينه العامّ الذي على الرغم من علمه بكلّ محاولات الاستقطاب والعروض السخيّة إلا أنّه لم يحرّك ساكناً حتى اللحظة.
فهل هو صمت العاجز أم المنسحب؟ وفي حال قرّر الرئيس الحريري الترشّح، فكيف سيخوض تيّاره غمار الانتخابات من دون سلطة ولا مال، ومع تسرّب المفاتيح الانتخابية تباعاً وهروب النخب من التيّار؟