مع بدء العدّ العكسيّ للاستحقاق الانتخابي، كان من المتوقّع أن تبادر الأحزاب والقوى السياسية إلى إطلاق ورش الاستعداد، وإلى تزييت ماكيناتها الانتخابية. بيد أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، حيث لا تزال الضبابيّة هي سيّدة الموقف.
فلا تحالفات واضحة، ولا ترشيحات محسومة حتى اللحظة. فالأزمة الاقتصادية والمعيشية، والانتفاضة الشعبية ضدّ قوى السلطة، أسهمتا في بعثرة المشهد السياسي الذي أفرزته الانتخابات الماضية عام 2018.
هذه الضبابيّة التي تخيّم على المشهد الانتخابي في لبنان، تبرز أيضاً في طرابلس، مدينة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، السنّيّ الأوّل، وفق أرقام الانتخابات الماضية، التي تكتسب الانتخابات النيابية فيها أهميّة خاصّة لأنّها تُعدّ الأكثر تعبيراً عن المزاج السنّيّ.
في انتخابات عام 2018، بلغ عدد الناخبين في لوائح الشطب في طرابلس وحدها 237,330 ناخباً، اقترع منهم 94,047، أي ما نسبته 39.63%، وهي نسبة منخفضة
انتخابات عام 2018
إلى جانب طرابلس، تضمّ دائرة الشمال الثانية قضاء الضنّيّة – المنية، وفق قانون الانتخابات الذي طُبِّق عام 2018، ولا يزال سارياً حتى اليوم. تتمثّل هذه الدائرة في البرلمان بثمانية مقاعد لطرابلس (5 للسنّة، 1 للعلويّين، 1 للموارنة، 1 للروم الأورثوذوكس)، ومقعدين سُنّيَّيْن للضنّيّة، وآخر سنّيّ للمنية.
في انتخابات عام 2018، بلغ عدد الناخبين في لوائح الشطب في طرابلس وحدها 237,330 ناخباً، اقترع منهم 94,047، أي ما نسبته 39.63%، وهي نسبة منخفضة.
بلغ عدد الناخبين السنّة في طرابلس 190,658، اقترع منهم 77,983، أي ما نسبته 40.9%. في حين أنّ نسبة الاقتراع عند العلويّين والشيعة بلغت 28.7%، الروم الأورثوذوكس 24.8%، الموارنة 11.8%، الأرمن الأورثوذوكس 12.1%، كاثوليك وأقليّات مسيحية 10.2%. في المجمل بلغت نسبة الاقتراع لدى الطوائف المسيحية في طرابلس 14.7%، وهي في حدّ ذاتها نسبة كارثيّة.
تنافست في تلك الانتخابات ثماني لوائح، نجحت ثلاثة منها في اجتياز العتبة الانتخابية التي بلغت 13,310 أصوات. تبوّأت لائحة العزم الصدارة حاصدةً 30,446 صوتاً، تلتها لائحة المستقبل بـ26,620 صوتاً، ثمّ لائحة الكرامة بـ16,396 صوتاً، وحلّت لائحة لبنان السيادة (أشرف ريفي) رابعةً برصيد 7,986 صوتاً. ومن اللوائح الأربع الباقية يمكن تصنيف ثلاث منها كقوى مجتمع مدني على الرغم من أنّها ضمّت النائب السابق مصباح الأحدب ومرشّح الجماعة الإسلامية. وقد حصلت مجتمعةً على حوالي 6,000 صوت. أمّا لائحة أحباب حزب الله، التي شكّلها كمال الخير، فحصلت على 1,292 صوتاً.
وكانت النتيجة النهائية للانتخابات في طرابلس 4 مقاعد للرئيس ميقاتي، 3 للمستقبل، 1 فيصل كرامي.
انتخابات 2022
المجتمع المدنيّ
كانت انتخابات 2018 التجربة الأولى لقوى المجتمع المدني في خوض غمار الانتخابات. وعلى الرغم من فشلها في تكوين لائحة موحّدة، ونجاح قوى السلطة في تفريقها وشرذمتها إلى لوائح، واجتذاب بعض الأشخاص منها إلى لوائحها، إلا أنّ تلك القوى تستعدّ لخوض المعركة الانتخابية اليوم بحماسة أكبر بكثير من الدورة السابقة، متسلِّحة بدعم المجتمع الدولي لها لإحداث التغيير المنشود، وبالغضب الشعبيّ المتعاظم على قوى السلطة.
نشاط مكثّف، اجتماعات يوميّة، في محاولة للخروج برؤية موحّدة وجامعة للقوى الشبابية المعارضة والمتمرّدة على السلطة، والتي خرج معظمها من رحم 17 تشرين. بيد أنّ كلّ ذلك لم يتمخّض عنه سوى اتّفاق الجميع على أن لا يتّفقوا أبداً، في استمرارٍ للخلافات الحادّة في وجهات النظر التي سادت إبّان انتفاضة 17 تشرين، والتي كانت أحد الأسباب البازرة في خفوت وهجها.
إلى جانب تلك القوى في المدينة، يبرز غياب منصّة “نحو الوطن” عن الساحة الطرابلسية، وكذلك الحال بالنسبة إلى منصّة “كلّنا إرادة”، إذ تركّز المنصّتان على المعركة الانتخابية في بيروت وبعض المناطق والمدن المسيحية الساخنة.
يبرز غياب منصّة “نحو الوطن” عن الساحة الطرابلسية، وكذلك الحال بالنسبة إلى منصّة “كلّنا إرادة”، إذ تركّز المنصّتان على المعركة الانتخابية في بيروت وبعض المناطق والمدن المسيحية الساخنة
في المقابل، ثمّة عدد من الشخصيّات التي تستعدّ لخوض الانتخابات النيابية، سواء ترشيحاً أو دعماً للائحةٍ أو مشروعٍ تغييريٍّ، ومنها بهاء الحريري، الذي يُعِدّ العُدّة لمنازلة أخيه في مناطق نفوذه، عبر تشكيل لائحة تخوض الانتخابات تحت رايته، لكن بعدما طلّق منتديات نبيل الحلبي، لا يزال مشروع لائحته غامضاً.
وقد حصل “أساس” على معلومات عن حراك لم تتّضح معالمه، يضمّ شخصيّات لها تجربة سياسية سابقة، لكنّها لم تعُد جزءاً من الطبقة السياسية، تقود حواراً من أجل تأليف لائحة مكتملة في دائرة الشمال الثانية (طرابلس، الضنّيّة، المنية)، تواجه كلّ اللوائح الأخرى، خاصةً لوائح القوى السياسية التقليدية. ويتمّ العمل على تزكية أسماء مقبولة في الشارع الطرابلسيّ، من دون الإعلان عنهم حتى لا يتعرّضوا لضغوط قبل أوانها تستطيع قوى السلطة أن تستخدمها بأفضل الطرق لتهشيم صورتهم.
وثمّة مشروع آخر لا يزال قيد الإعداد، يضمّ بعض النخب الشبابية، التي لديها خبرات في العمل الانتخابي راكمتها بعملها مع العديد من المرشّحين سابقاً.
القوى التقليديّة
لكنّ هذه الحماسة لدى قوى المجتمع المدني، يقابلها نوعٌ من الخمول لدى القوى السياسية التقليدية التي تتّفق جميعها على أنّ الوقت لا يزال مبكراً للدخول في حمّى الانتخابات، وتبدو كأنّ كلّ واحدة منها تنتظر الأخرى كي تخطو الخطوة الأولى.
في طليعة تلك القوى الرئيس نجيب ميقاتي، الذي لم يحسم حتى الساعة أمر ترشّحه من عدمه، وفي حال عدم ترشّحه، هل يشكّل لائحة العزم، أم يدعم لائحة المستقبل أو لائحة أخرى، أم يقف على الحياد كما فعل عام 2005؟
يقول القيادي في تيّار العزم عبد الرزاق قرحاني في حديث لـ”أساس” إنّ كيفيّة تعاطي العزم مع الاستحقاق الانتخابي لا يزال الحديث عنها سابقاً لأوانه، وإنّ الأمور لن تُحسَم قبل بتّ التعديلات على قانون الانتخاب التي يجري الحديث عنها، سواء من ناحية مقاعد المغتربين وطريقة توزيعها، بحيث يبرز السؤال: هل يتمّ منح مقعد نيابي لكلّ قارّة؟ وكيف يجري توزيع تلك المقاعد؟ أو من ناحية الصوت التفضيليّ، بحيث يكون السؤال: هل يبقى صوتاً واحداً أم يصبح صوتين تفضيليَّيْن لكلّ مقترع؟
يضيف قرحاني أنّ الأمر يحتاج إلى الانتظار قليلاً ريثما تتوضّح الصورة أكثر، ويتمّ إقرار هذه التعديلات أو إبقاء القانون الانتخابي كما هو.
من جهته، يرى تيّار النائب فيصل كرامي أنّ الحديث عن الانتخابات وتحالفاتها لا يزال سابقاً لأوانه. وفي حديث لـ”أساس” يقول القيادي في تيار الكرامة، المحامي عادل الحلو، إنّ الموضوع الانتخابي في طور التشاور والتفكير والدراسة، ولا شيء محسوم، وإنّ هذا هو حال جميع التيارات السياسية، وإنّ النشاط الانتخابي في الوقت الحالي يقتصر على قوى المجتمع المدني.
أمّا على ضفّة تيار المستقبل، فيلفت المنسّق العامّ للتيّار في طرابلس بسام زيادة، في حديث لـ”أساس”، إلى أنّ تيار المستقبل يعمل على تنظيم صفوفه والتواصل مع الناس وقاعدته الشعبيّة.
وعن تحالفات المستقبل وانفتاحه على قوى وشخصيّات كانت على خصومة معه، يؤكّد زيادة أنّ “تيار المستقبل هو تيار الواقعية، وسيتحالف مع مَن يملك البرنامج الاقتصادي والإنمائي لمصلحة لبنان أوّلاً”.
ويشير زيادة إلى أنّ “المستقبل سيحرص على طرح أسماء أشخاص يملكون تجربة ناجحة في حياتهم المهنيّة وتعاطيهم مع مجتمعهم وقدرتهم على فتح حوار مع الجميع”، مؤكّداً أنّ “تيار المستقبل ليس تياراً شموليّاً، ولا يوجد في فلسفته أيّ احتكار أو إلغاء للآخر”.
وقد أفاد مصدر سياسيّ مطّلع “أساس” بأنّ النائب في كتلة المستقبل سمير الجسر اتّخذ قراراً بالعزوف عن الترشّح والابتعاد عن السياسة، فيما لم يتم حسم اسم المرشح البديل الذي سيحل مكانه.
وعلى صعيد الجماعة الإسلامية، وإن كان موضوع الانتخابات والمرشّحين لا يزال قيد الدراسة، فإنّ إيهاب نافع، في حديث لـ”أساس”، يؤكّد أنّ الجماعة لن تتحالف مع القوى السياسية التي أوصلت البلد إلى الانهيار، نافياً وجود مفاوضات مع الحريري أو أيٍّ من قوى السلطة، مشدّداً على اصطفاف الجماعة إلى جانب قوى التغيير التي سبق أن شاركت في اجتماعاتها ولقاءاتها أيام انتفاضة 17 تشرين.
ويلفت نافع إلى أنّ الانكفاء غير موجود في قاموس الجماعة الإسلامية، وأنّها ستشارك في الانتخابات، سواء مباشرة عبر ترشيح أحد أعضائها أو عبر دعم ترشيح شخصيّة من المجتمع المدني.
إقرأ أيضاً: الانتخابات النيابيّة تحت عيون السفارات والمؤسّسات الدوليّة
من ناحية وزير العدل الأسبق اللواء أشرف ريفي، يكشف مصدر مقرّب منه لـ”أساس” أنّ ريفي اتّخذ قراراً بالعزوف عن الترشّح في الانتخابات النيابية المقبلة، لكنّه سيكون داعماً حتماً للوائح قوى التغيير والمجتمع المدني ضدّ قوى السلطة التي نهبت البلاد وأفلست العباد.
ربّما لا يزال الوقت مبكراً بعض الشي على حسم بوصلة التحالفات، لكنّ الضبابيّة، التي تلفح مواقف جميع القوى السياسية، مردّها في الواقع إلى وجود قناعة لديها بصعوبة إجراء الانتخابات النيابية، ولذلك ارتأت أن لا تبدّد جهودها عبثاً.