هو وداعٌ متأخّر لبيروت. كما أنّه وداعٌ مبكرٌ للبنان. وداعٌ صعب، لكنّه حقيقيّ. ولا داعي لتكرار أنّ بيروت الجامعة والمصرف والمستشفى باتت صورةً من الماضي، وباتت بيروت هي الصاروخ والميليشيات والمافيا الفاسدة.
مع “هدم” مبنى تلفزيون المستقبل في الروشة، ينتهي جزءٌ كبيرٌ من بيروت. وهذه المرّة: بيروت الإعلام.
ليست مبالغة القول إنّ الإعلام البيروتي بات على هامش المشهد في المنطقة. جرائد أقفلت إلى غير رجعة، ليس آخرها “دايلي ستار”، وليس أوّلها “السفير” و”المستقبل”. وتلفزيونات فقدت قدراتها الإنتاجية، وبرامجها التي كانت تسحر العرب وتصنع من بيروت صورة المعجزة، أيّاً كانت الحقيقة، باتت أقلّ قدرةً على اجتذاب اللبنانيين، المتوزّعين بين الفضائيات وبين منصّات “نتفليكس” و”شاهد” ومثيلاتهما، يسخرون من البرامج الأسبوعية على الشاشات المحلّية، ومن المسلسلات البلهاء، بالممثّلين السُذّج. وإذا نبت برنامج “من خارج الصندوق”، لا يصمد، إمّا بسبب انعدام نسب المشاهدة، أو بسبب جرأته غير الضرورية.. وهذا حديثٌ آخر.
في وداع تلفزيون المستقبل، ربّما هناك من يجرؤ على اقتراحات جديدة، لكنّ الأكيد أنّ الكاميرا لا يمكن أن تخترع الأمل. وتحت حجارة مبنى الروشة، يرقد جزءٌ كبيرٌ، من روح بيروت
لِنَعُد إلى هدم مبنى تلفزيون المستقبل، المبنى الذي انطلق منه التلفزيون ليصير “الشاشة العربية” طوال أكثر من 10 سنوات.
وداعُ هذا المبنى هو مناسبة لوداع مرحلة كاملة من تاريخ لبنان. لبنان الذي صنعه رفيق الحريري بالصوت والصورة. وبيروت التي ألهمت ذات يوم حكّام الخليج، وحلموا بصناعة مدنٍ تشبهها، وليس دبي وحدها، التي قال حاكمها في كتابه “قصّتي… 50 قصّة في خمسين عاماً”: “حلمٌ تردّد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما…”. وها هي بيروت تنظر إلى دبي غيرةً وحسداً، وشباب لبنان يعيشون في دبي أحلى أيّام حياتهم.
من ذلك المبنى القديم، خرجت أغنية “البلد ماشي” التي تشاركها ناشطون وهم يودّعون المبنى. ومنه أُعلن خبر اغتيال الحريري. وفيه أُعلن خبر اكتساح قوى 14 آذار الانتخابات النيابية في 2005، وإليه وصلت جحافل الغزاة الجدد في 7 أيّار 2008، وأحرقت بعضاً من أرشيفه، حقداً على العاصمة وعلى مشروع الحريري، بعد 3 سنوات من تفجيره بطنٍّ من الحقد في وسط بيروت.
شهد المبنى سكرات نهاية دور بيروت، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، منذ 2005 إلى 2008. وبعدها نسيه أهله، إلى أن أقفل التلفزيون في 2019، وها هو المبنى يسقط تحت ضربات مالكيه، أو مَن تبقّى منهم، تمهيداً لبيعه.
حين يُقفَل مسرحٌ تاريخيٌّ، وبعد سنوات، حين يأتي المالك الجديد وتبدأ عمليه الهدم، تفرفر الذكريات من بين الحجارة، كما لو أنّها أرواح كانت تهيم فيه وجاء مَن يطردها. كذلك مبنى المستقبل في الروشة، تسكنه أشباح بيروت. بين جدرانه حكايات الأغنيات التي شهدت على صعود لبنان من تحت أنقاض الحروب في التسعينيّات، وتلك التي شهدت عودته إلى تحت الأنقاض نفسها، منذ 2005 إلى اليوم.
يمكن اختصار الحكاية بأغنية “وحياتك بتمون” في بداية التسعينيّات، ومن كلماتها: “عالماضي لا تنوح، المستقبل لإلك”.
كان التلفزيون دعوةً إلى “المستقبل”.
ويمكن استكمال الحكاية بأغنية “هالدنيا تنين تنين” في 2014، ومن كلماتها: “مثلاً شوف الإيدين، وِحدِة ما فيها تزقّف، منزِقِّف بالتّنتين”.
كانت محاولةً لاستعادة شيء من بيروت المقسومة يومها بالتفجيرات والاغتيالات. صدرت بعد أشهر من اغتيال محمد شطح على بعد أمتار من مكان تصوير الفيديو كليب. لكن لم يبقَ منها شيء. لا المدينة ولا الأغنية ولا الفكرة. انتصرت يدٌ على الأخرى. و”راحت” بيروت التي كان فيها إعلامٌ يتصدّر الأحلام في لبنان والمنطقة.
ليس نواحاً، بل هو وداعٌ هادىءٌ. ومتأخّر لهذه المدينة. فقد حاول الإعلام أن يصمد. لكن ها هو يلحق بالمستشفى المُتهالِكة والمصرف المُفلِس والجامعة المُتعَبة.
إقرأ أيضاً: نهاية لبنان… والترانسفير الذي لن ينتهي
في وداع تلفزيون المستقبل، ربّما هناك من يجرؤ على اقتراحات جديدة، لكنّ الأكيد أنّ الكاميرا لا يمكن أن تخترع الأمل. وتحت حجارة مبنى الروشة، يرقد جزءٌ كبيرٌ، من روح بيروت. لأنّها باتت عاصمة بلا مرفأ، وبلا روح، تحكمها العضلات وليس العقل.
وبسهولة يمكن أن نحذف كلمة “تلفزيون” من العنوان، ليصير: “في وداع المستقبل”.