السياسة الفرنسية على استعداد أن تبيع أيّ حليف تاريخي سابق أو حالي شريطة وجود “السعر المناسب”.
يخطئ مَن يعتقد أنّ مصالح الكبار تقوم على قاعدة من المواقف الثابتة، فهي في الحقيقة مبنيّة من بدايتها إلى نهايتها على مصالح متغيّرة متقلّبة.
نحن في العالم العربي، بالنسبة إلى الفرنسيّين أو الروس أو الأميركيين، “زبائن” نشتري وأسواق استهلاكية لتصريف منتجاتهم فحسب.
من هنا، من هنا فقط، يمكن فهم التحرّكات الفرنسية الأخيرة من لبنان إلى إيران، ومن دول الخليج إلى تركيا، ومن بريطانيا إلى فرنسا، ومن موسكو إلى واشنطن، ومن بكين إلى نيوزيلندا. هي سياسة “التاجر المأزوم حالياً، المتراجع سياسياً، المهدَّد داخلياً، الذي يسعى إلى إيجاد حلول خارجية تنقذه من تعقيدات وضغوط سوء أوضاعه الداخلية”.
لم تُسجَّل نقطة نجاح إيجابية للسياسة الفرنسية في ملفّات الصراع العالمية والإقليمية التي قدّم فيها ماكرون نفسه صاحب مبادرات وحلول
تواجه حقبة حكم الرئيس إيمانويل ماكرون الكثير من الضغوط الشديدة والتداعيات السلبية:
1- سوء أداء الاقتصاد المحلّي الفرنسي إلى حدّ أنّه يضغط على المؤسّستيْن المختصّتين بالتصنيف الائتماني “ستاندرد أند بورز” و”فيتش” بتصنيفه من سلبي إلى غير مستقرّ، الأمر الذي سينعكس على نهوض الاقتصاد الفرنسي ويحكم سلباً على جدارته.
2- استمرار حركات الاحتجاج العنفيّة التي تقوم بها نقابات العمال وأحزاب المعارضة طوال فترة رئاسة ماكرون حتى كاد يُصاب الاقتصاد الفرنسي بالشلل، لأنّها أثّرت بشكل سلبي على حركة السياحة التي تعتبر أحد أهم مصادر الدخل للبلاد.
وأدّت ظاهرة “السترات الصفر” إلى إحداث حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في كبريات المدن الفرنسية.
3- سوء إدارة ماكرون لتداعيات أزمة “كوفيد 19″، وانكشاف مستوى الخدمة الصحية في البلاد، وهي أحد عناصر القوة التي كانت كلّ الأنظمة الحاكمة تتباهى بها.
4- خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت)، واختفاء نجم السيدة ميركل من سماء السياسة الأوروبية والعالمية.
5- غدر الحليف الأميركي بفرنسا من خلال اختطاف تحالف أميركي-بريطاني لصفقة الغواصات الفرنسية البالغ حجمها 56 مليار دولار، والموقّعة عام 2016 مع أستراليا.
6- صعود تيّاريْ اليمين المتطرّف ويسار الوسط في فرنسا على حساب إخفاقات إدارة ماكرون.
لم تتحقّق وعود ماكرون، التي فاز على أساسها في انتخابات 2017 من خلال حزبه “الجمهورية إلى الأمام”. فقد وعد خلال حملته الانتخابية بتوفير 56 مليار دولار خلال فترة رئاسته الأولى، وتقليص عدد الموظفين العموميين بنحو 120 ألف موظف، وإصلاح سوق العمل، وتحسين الأجور. كلّ ذلك لم يفِ به حتى الآن.
7- دخول فرنسا في صراعات كلامية مع كلّ من تركيا وإيران والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا أخيراً بشكل ساخن متصاعد في بدء الأزمات، ثمّ انتهاؤها إلى الانصياع والقبول بالأمر الواقع.
8- إخفاق الدور الفرنسي في تطويع إردوغان أو إقامة حكومة إصلاح في لبنان أو سحب المرتزقة والميليشيات من ليبيا أو تليين موقف المفاوض الإيراني في فيينا.
باختصار لم تُسجَّل نقطة نجاح إيجابية للسياسة الفرنسية في ملفّات الصراع العالمية والإقليمية التي قدّم فيها ماكرون نفسه صاحب مبادرات وحلول، وممثّلاً لثقل دول الاتحاد الأوروبي، ومعبِّراً عن قوّة حلف الناتو.
نقاط النجاح الوحيدة، التي يحملها ماكرون في سجلّ إنجازاته في الانتخابات الرئاسية التي دارت عجلاتها هذا الشهر، هي عقود تسليح مع مصر وقطر والهند والإمارات والسعودية، وبعض الاتفاقات التجارية مع دول إفريقيا الوسطى وشمال إفريقيا وجنوب شرق آسيا.
يدخل الرجل هذه الانتخابات وأمامه منافسات شديدة من اليمينيّ كزافييه برتران، والمتطرّفة اليمينيّة ماري لوبان، وسط أجواء متشائمة حول المستقبل القريب.
يدخل ماكرون هذه الانتخابات وقد لعب دوراً تسويقيّاً مهمّاً لشركة توتال الفرنسية و”داسو” لصناعة السلاح وإيرباص للطائرات المدنية ولمجموعة كبار رجال الأعمال الفرنسيين الذين صاحبوه في معظم جولاته الخارجية.
هذا هو مركز الثقب الذي يدخل به الرجل الانتخابات الرئاسية الحالية، ويسعى من خلاله أن يجدّد رئاسته بفضل دعمهم.
من هنا يمكن فهم حضور ماكرون لعدّة قمم عالميّة. فلقاؤه الأخير مع بايدن، وجولته الخليجية، ومجمل تصريحاته هي الجزء الأهمّ من حملته الانتخابية الرئاسية فيما يدرك (من خلال استطلاعات الرأي المستقلّة) تناقص شعبيّته في الداخل، وانخفاض مؤشّر الرضا عن أدائه، وتدنّي منسوب صدقيّته بعدما تمّت مقارنة وعوده الانتخابية بحجم الإخفاقات والعجز عن الوفاء بها، ولا سيّما في مجاليْ خفض العجز والمكاسب الاجتماعية.
بهذه الذهنيّة يمكن تلخيص “دفتر أحوال ماكرون” الحالي بما يلي:
1- تاجر شنطة بضائع فرنسية.
2- مسوّق رفيع المستوى لخدمة كبريات الشركات الفرنسية المؤثّرة بقوة في معادلات ربح أو خسارة انتخابات الرئاسة والبرلمان والانتخابات المحليّة.
3- لا أصدقاء دائمين، ولا أعداء أبديّين، بل “مصالحة للمصالح” بصرف النظر عن تداعياتها على مصالح الحلفاء والأصدقاء.
وتؤكّد مصادر خليجية أنّ الرئيس الفرنسي كرّر وشدّد بإلحاح على إقناع مَن التقى بهم هناك بـ 3 أمور:
1- استعداد فرنسا الدائم والفوريّ لتلبية أيّ متطلّبات تسليحيّة بأسرع وقت ممكن حتى لو تطلّب إعطاء الأولوية لتسليم الزبون الخليجي تحويل خط الإنتاج الذي كان معدّاً لتسليم المقاتلات أو المعدّات الخاصّة بالجيش الفرنسي نفسه، إلى خط لإنتاج الطلبية الخليجية.
2- باختصار قال ماكرون “تسلّموا ما كان يتمّ تصنيعه للجيش الفرنسي، ونحن سوف نؤجّل تسليم ما كان مخصّصاً لجيش بلادنا.
3- إنّ المحادثة الهاتفية المشتركة، التي تمّت بين ماكرون ووليّ العهد السعودي ودولة الرئيس نجيب ميقاتي، كانت خطوة لتلطيف الأجواء، وليس معروفاً إن كانت ستنتهي إلى دعوة رئيس الوزراء اللبناني قريباً إلى الرياض أو ستنجم عنها عودة السفراء الخليجيّين إلى بيروت.
يقول مصدر إنّ الرياض ما زالت في مرحلة تقييم وتقدير الخطوات المقبلة في ما يختصّ بشكل العلاقة المقبلة مع الحكم في لبنان، وإلا لو كان القرار متّخذاً بالفعل لكانت قد تمّت دعوة رئيس الوزراء اللبناني إلى زيارة الرياض خلال تلك المكالمة.
وتفسّر المصادر السعودية ما نُقِل عن وليّ العهد السعودي أنّه قاله خلال تلك المكالمة: “نريد أن نفتح صفحة جديدة مع لبنان”، بأنّه رسالة واضحة في أنّ السلوك السعودي السابق الذي كان يدعم لبنان في كلّ الظروف والعهود قد أصبح الآن مشروطاً بمبدأ “لا تعاون، ولا دعم، ولا استثمار، ولا ودائع، ولا سياحة، في ظلّ وجود تركيبة حكم مسيحية-شيعية تُعادي المصالح الصريحة للسعودية، وتدعم أعداءها في المنطقة من منصّات في صنعاء ودمشق يتمّ توجيهها من طهران”.
إقرأ أيضاً: لبنان.. ماذا بعد؟
في الخليج لا شكّ لديهم في أنّ اتفاقات التسليح والتجارة والاستثمار سيتمّ تنفيذها بشروطها ومواعيد تسليمها لأنّ وراءها كبريات الشركات العملاقة الفرنسية. ولكن في ما يختصّ بالوعود السياسية المعطاة داخل الغرف المغلقة من ماكرون، فهي بشكل واقعي جدّاً وعود رجل مأزوم في دولة مرتبكة اقتصادياً واجتماعياً، في قارّة مضطربة، في عالم شديد السيولة.
وفوق ذلك كلّه، تلك وعود رجل لا هو ولا غيره يدركون إذا كان سيكون رئيساً لفترة ثانية أم لا.
إن لم نفهم أعماق وضعيّة ماكرون محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً نكون قد أخطأنا في فهم معنى ودوافع زيارة ماكرون الأخيرة للمنطقة.