لم يكن متوقّعاً أن يخرج الاشتباك السياسي بين حركة أمل والقوات اللبنانية بعد اشتباكات الطيّونة – عين الرمّانة عن الحدود التي بلغها. لكن أيضاً لم يكن متوقّعاً أن تتجدّد المواجهة بين الحركة والتيار الوطني الحر، خصم القوات اللبنانية وحليف حزب الله، بعد أقلّ من عشرة أيّام على اشتباكات الطيّونة التي دفعت بالخصومة بين الحزب والقوات إلى أقصاها.
هذه واحدة من مفارقات المشهد السياسي اللبناني الممتلئ بالمفارقات. بيد أنّ ما يمكن استنتاجه من التداعيات السياسيّة لأحداث الطيّونة أنّه لم تطرأ تعديلات جوهريّة على المعادلة السياسية بعد هذه الأحداث، وتحديداً لجهة الانقسام حول عهد الرئيس ميشال عون وتيّاره السياسيّ برئاسة النائب جبران باسيل.
سواء أُجريت الانتخابات أو لا، وسواء حاز فيها حزب الله وحلفاؤه الغالبيّة أو لا، وسواء حازت القوات اللبنانية الكتلة المسيحيّة الكبرى أو لا، فإنّ تعقيدات المشهد السياسي ستتفاقم أكثر وأكثر بالتوازي مع تفاقم الانهيار الاقتصادي
وليس قليل الدلالة أنّ الدم، الذي أُريق في مواجهات الطيّونة – عين الرمّانة، لم يُبدّد التقاطع السياسي بين القوّات وأمل. وهو ما أكّدته مجريات الجلسة التشريعيّة في 19 الشهر، أي بعد أقلّ من أسبوع على وقوع هذه المواجهات في 14 منه.
اللافت أنّ التيار أسقط، في بيانه الأسبوع الماضي، “التناغم” بين أمل والقوات في تلك الجلسة البرلمانية على قراءته لأحداث الطيّونة، إذ اعتبرها نتيجةً لتواطؤ ثنائيّة القوّات – أمل، ولم يكتفِ بذلك، بل أعاد تظهير تفاهم مار مخايل بينه وبين حزب الله كنقيض لـ”ثنائيّة تواطؤ الطيّونة”!
لم يأتِ التيار إذاً على ذكر حزب الله كطرف في أحداث الطيّونة، وإنّما كأحد طرفيْ تفاهم مار مخايل. وهو بذلك يحاول أن يُخرج الحزب من مسرح المواجهات في لعبة إعلاميّة مفضوحة لإعادة تبرير تحالفه معه من خلال شيطنة الحركة والقوّات، وتصوير نفسه والحزب كنقيضين أخلاقيّين لهما، وهي “لعبة” يمارسها الحزب بدوره، وإن بأسلوب مختلف، وربّما أذكى.
لا ريب أنّ هذا السيناريو “العونيّ” سورياليّ وعصيّ على التصديق حتّى من جانب مناصري التيار. لا لشيء إلّا لأنّ حزب الله نفسه أكّد وجود مناصريه – مقاتليه في أحداث الطيّونة – عين الرمّانة. بيد أنّ التيار بإطلاقه العنان لمخيّلته السياسيّة على هذا النحو إنّما يزخّم حملات التضليل السياسي التي أصبحت أداة رئيسية في ممارسته السياسيّة منذ نشأته، ولا سيّما في المواسم الانتخابيّة.
لكنّ مواقف التيّار هذه تتجاوز في دلالاتها جوانب الدعاية السياسيّة، إذ تعكس تعقيدات المشهد السياسي على أكمل وجه. فالتيار إذ يلتقي مع الحزب على الخصومة مع القوّات، فهو يفترق عنه في التحالف مع أمل التي ليست في تحالف مع القوّات، لكنّها على تقاطع سياسيّ معها، وهو ما عبّر عنه رئيس القوات سمير جعجع في مقابلته التلفزيونية الخميس بقوله إنّه يلتقي مع أمل على أمور عديدة، وأهمّها “نهائيّة الكيان اللبناني”.
سؤال الانتخابات
تدفع هذه التعقيدات في المشهد السياسي إلى التفكير في طبيعة وصدقيّة ومتانة التحالفات السياسيّة في البلد. لكن إذا تجاوزنا المقاربة السياسيّة-الأخلاقيّة لهذه التحالفات، تدفعنا هذه التعقيدات إلى السؤال عن كيفيّة بل إمكانيّة إجراء الانتخابات في ظلّها، ولا سيّما خلال الظرف السياسي الراهن داخليّاً وخارجيّاً.
إذا كان الحزب قد عدّ انتخاب عون أحد أهمّ مكاسبه الاستراتيجيّة في لبنان، فإنّ حركة أمل تعدّ عدم انتخابها عون دليلاً على رؤيويّتها السياسيّة، وهو ما أكّدته في بيانها محمّلةً التيار المسؤولية عمّا وصلت إليه أوضاع البلد
داخلياً، لا يمكن تصوّر أنّ حزب الله مستعدّ لخسارة الغالبية النيابية التي “اعتزّ” بها قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني بعد مرور شهر على إجراء انتخابات 2018. وهو ما يعني أنّ إيران راعية الحزب عدّت هذه الغالبيّة مكسباً سياسيّاً لها، وهي غير مستعدّة إطلاقاً اليوم لخسارة هذه الورقة الثمينة، ولا سيّما بعدما مُنِي حلفاؤها العراقيّون بهزيمة ساحقة في الانتخابات التشريعية منذ نحو أسبوعين. وها هو العراق مقبل على فوضى سياسية، وربّما أمنيّة، جرّاء رفض القوى الحليفة لإيران نتائج الانتخابات. يُضاف إلى ذلك أنّ الغموض الذي يكتنف مستقبل المفاوضات النوويّة في فيينا يجعل طهران شديدة الحرص على الإمساك بمختلف أوراقها في المنطقة.
زد على ذلك أنّ الانقسام العراقي الرئيسي الآن هو داخل “البيت الشيعيّ”، وهذا يجعل العيون مفتوحةً أكثر على “البيت الشيعي” في لبنان. ولذلك اتّهمت حركة أمل التيّار بمحاولة زرع الفتنة بينها وبين الحزب في لحظة حسّاسة جدّاً، إذ انعكس اختلاف أسلوب كلّ من الحركة والحزب في التعاطي مع أحداث الطيّونة على أدبيّات مناصريهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وهو ما يعكس في النهاية الاختلاف في “طبيعة” الطرفين، بل يمكن الذهاب أبعد في تصوّر آفاق “المرحلة الشيعية” المقبلة.
فإذا كان الحزب يهدف إلى توفير الغالبيّة النيابية مع حليفيْه الأساسيّين أمل والتيار، فإنّ الخلاف المتفاقم بينهما قد لا يُرخي بظلاله على المشهد الانتخابي وحسب، بل على مجمل المشهد السياسي بعد الانتخابات. هذا مع العلم أن لا أحد يمكنه منذ الآن توقّع نتائج الانتخابات. خصوصاً إثر تراجع التأييد الشعبي للتيار الوطني الحرّ للأسباب المعروفة.
حتّى لو افترضنا أنّ في إمكان الحزب الالتفاف على انعكاس التناقض بين أمل والتيار على وقائع التصويت في الانتخابات بفعل طبيعة القانون الانتخابي، وافترضنا أيضاً أنّ الحزب قادر على الاحتفاظ بالغالبيّة النيابية، فالسؤال المطروح: هل سيتمكّن الحزب من إدارة هذه الغالبيّة سياسيّاً في ظلّ الافتراق التامّ بين التيار والحركة، ولا سيّما عشيّة الاستحقاق الرئاسي المقبل؟
فإذا كان الحزب قد عدّ انتخاب عون أحد أهمّ مكاسبه الاستراتيجيّة في لبنان، فإنّ حركة أمل تعدّ عدم انتخابها عون دليلاً على رؤيويّتها السياسيّة، وهو ما أكّدته في بيانها محمّلةً التيار المسؤولية عمّا وصلت إليه أوضاع البلد “من تراجع سياسي واقتصادي، وحتى في أخلاقيّات العمل الوطني”. وهذا تناقض بين الحزب والحركة لا يمكن التقليل من شأنه، وبخاصّة كلّما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية.
عليه لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال الفصل بين الانتخابات النيابية المقرّرة في 27 آذار المقبل والانتخابات الرئاسية بعد انتهاء ولاية الرئيس عون. لذا ستكون حسابات الأفرقاء السياسيين للانتخابات التشريعية مبنيّة على حساباتها للاستحقاق الرئاسي. وهو ما ينطبق بصورة رئيسية على حزب الله الذي لن يتخلّى بسهولة عن موقع الرئاسة الأولى، في وقت سيواجه الحزب صعوبة في إدارة التنافس بين حليفيْه المرشّحيْن للرئاسة سليمان فرنجية وجبران باسيل، في حال حافظ على الغالبيّة النيابية وحاز التيّار على الكتلة المسيحية الكبرى. أمّا حيرته الأشدّ فستكون في حال خسر هذه الغالبيّة، وفي حال حصلت القوات على الكتلة المسيحية الكبرى. وقتذاك سترتدّ على الحزب حكماً نظريّة “الأقوياء في طوائفهم” التي تبنّاها ودفع باتّجاهها.
إقرأ أيضاً: هل الحزب “مرتبك”.. بـ”انتصار” مأزوم؟
يدفع كلّ ذلك إلى الاعتقاد بأنّه مهما تكن سيناريوهات الانتخابات النيابية، سواء أُجريت أو لا، وسواء حاز فيها حزب الله وحلفاؤه الغالبيّة أو لا، وسواء حازت القوات اللبنانية الكتلة المسيحيّة الكبرى أو لا، فإنّ تعقيدات المشهد السياسي ستتفاقم أكثر وأكثر بالتوازي مع تفاقم الانهيار الاقتصادي، وهو ما سيُضعف إمكانات التسوية الداخلية لإخراج لبنان من عنق الزجاجة، ولا سيّما على أعتاب الانتخابات الرئاسية. فهل يكون الحلّ من خلال تسوية برعاية خارجيّة؟ وهل تُعقَد هذه التسوية على البارد أم تُستبَق بتسخين كما جرت العادة؟