في بدايات تدخّل حزب الله في الحرب السورية ظلّ أمينه العامّ يردّد أنّ قتاله في سوريا هو لحماية لبنان الذي تحدِّد تلك الحرب مصيره. كان ذلك مقدّمة للقول إنّ تضحيات الحزب في سوريا لا بدّ أن تُترجَم لاحقاً في المعادلة السياسية اللبنانية.
وقتذاك كانت أولويّة الحزب سوريّة. لذلك كان لبنان بالنسبة إليه ساحة خلفيّة يجب أن تبقى هادئة وآمنة. حتّى إنّه اقترح على مؤيّدي الثورة السورية، وتحديداً مناصري تيار المستقبل، أن يوافوه للتقاتل في سوريا إذا كانوا يريدون نصرة الثوّار السوريين، عوض أن يستنفروا ضدّه في لبنان. ثمّ حين تراجعت حدّة المعارك في سوريا، بعد تدخّل روسيا لإنقاذ نظام الأسد وحلفائه، شرع الحزب يهتمّ تدريجاً بالملفّ اللبناني باعتبار أنّ الوقت قد حان لجني ثمار “انتصار” محوره في الداخل اللبناني.
مأزق الحزب يتجاوز إرباكات علاقته مع التيار الوطني الحرّ، المربَك والضعيف بدوره. فمأزقه الأساسي يبقى في فشله في حكم لبنان بنجاح وسلاسة بعد استثماراته في الإقليم، وتحديداً في سوريا
عَدَّ حزب الله انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية أولى تلك الثمار، وسرعان ما أدخل تعديلات أساسيّة على خطابه، فبدأ يركِّز أكثر على دقائق التفاصيل اللبنانية، وأعلن استعداده لمكافحة الفساد، وتوعّد بكشف مستندات في حوزته، لكنّه لا يزال يحتفظ بها لنفسه حتّى الآن!
بعد انتخاب عون، سارت الأمور كما يشتهي الحزب، ولا سيّما بعد حيازته وحلفائه الغالبيّة النيابية في انتخابات 2018، ونجاح المساكنة بينه وبين تيار المستقبل، إلى أن وقع الانهيار الكبير في خريف 2019، فانقلبت هذه المعادلة رأساً على عقب.
عليه لم يُعِد الانهيار خلط الأوراق السياسيّة كلّها بين تيار المستقبل وشريكيه في تسوية 2016 العهد والحزب فحسب، بل وبين الحزب والتيار الوطني الحر أيضاً:
– فمن ناحية، كان الانهيار إعلاناً مبكراً لفشل العهد، وهو الحليف الوثيق للحزب، الذي ما عاد قادراً على الدفاع عن سياسات الرئيس وتيّاره، أقلّه تجاه “جمهور المقاومة”.
– ومن ناحية ثانية، ما عاد التيار قادراً على الدفاع عن تحالفه مع الحزب بعدما دفع الانهيار إلى بروز رأي عامّ لبنانيّ، وبالأخصّ مسيحيّ، يحمّل الحزب أسباب الأزمة بسبب تحويله لبنان ساحة مواجهة إقليمية ودولية.
– وعلى مستوى أعمق، كلّما تفاقم الانهيار كان التناقض في الخلفيّة الأيديولوجيّة وأنماط العيش بين قواعد الحزب والتيّار يكبر أكثر، وقد حاول جبران باسيل اختصار هذا التناقض بالقول إنّه يختلف مع الحزب على بناء الدولة. فعلامَ يُفترض أن يتّفق حزبان إن لم يكن على بناء الدولة؟!
في المحصّلة منع الانهيار الكبير الحزب من جني أرباح استثماراته الإقليمية على الساحة اللبنانية كما كان يشتهي ويخطّط، وذلك على الرغم من انتخاب حليفه رئيساً للجمهورية وحيازته الغالبيّة النيابية وتعزيز قبضته على الحكومات المتعاقبة منذ 2016. فكلّ هذه الإنجازات السياسية تبدو هشّة في ظلّ الانهيار، الذي وضع غالبية اللبنانيين على شفا المجاعة، فيما عجزت السلطة الموالية للحزب عن إيجاد حلول للأزمة، أو أقلّه عن المباشرة في رسم طريق واضحة للخروج من النفق المظلم.
انحسار “الغطاء المسيحي”؟
هذا الواقع الموضوعي لا يستطيع الحزب المكابرة عليه، بل إنّ مكابرته عليه هي بمنزلة دليل واضح على عجزه عن التعامل معه. لكن، عمليّاً، بات الحزب أسير هذا الواقع، سواء كابر عليه أو لا، ولا سيّما أنّ تطوّرات الأزمة أضعفت حليفه الرئيسي التيار الوطني الحر إلى درجة أنّه ما عاد بإمكانه الاعتداد بتحالفه معه بوصفه أكبر تكتّل مسيحي، لأنّ الجميع يعلم أنّ التيار ما عاد في وسعه توفير غطاء شعبيّ مسيحيّ له كما حدث في عام 2006 في لحظة بلوغ عزلة الحزب الداخلية أوجها.
دخل لبنان مرحلة شديدة الحساسيّة والخطورة عنوانها الرئيسي ارتباك حزب الله في التعاطي مع المرحلة المقبلة، وتحديداً عشيّة الانتخابات النيابية المقرّرة، مبدئيّاً، في 27 آذار المقبل
واللافت أنّ الأمين العامّ للحزب لم يأتِ في خطابه الإثنين على ذكر هذه “الهديّة الاستراتيجيّة” التي قدّمها له التيّار في 2006، وإنّما اكتفى بالقول إنّه تحالف حينها مع أكبر تكتّل مسيحي لمنع الحرب الأهلية.
وقد استفاض في تعداد “جمائله” على المسيحيين منذ تحرير الجنوب في عام 2000، وصولاً إلى قتاله في سوريا ثمّ في جرود عرسال لحمايتهم. ولم ينسَ تذكير التيار بأنّه لم يضع شرطاً واحداً على ميشال عون لانتخابه رئيساً للجمهورية، وهو ما يعني أنّ فضله على التيار سابق وكبير ويمتدّ إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة حتّى لو لم يتبنَّ ترشيح جبران باسيل.
لكنّ مأزق الحزب يتجاوز إرباكات علاقته مع التيار الوطني الحرّ، المربَك والضعيف بدوره. فمأزقه الأساسي يبقى في فشله في حكم لبنان بنجاح وسلاسة بعد استثماراته في الإقليم، وتحديداً في سوريا. فما إن “عاد” الحزب إلى لبنان حتّى انهارت أوضاع البلد على نحو كارثيّ ومأساويّ. ومهما حاول الحزب الاستفادة من الأزمة لتعزيز نفوذه السياسي والاقتصادي في البلد، فإنّ حجم الأزمة قادر على تهميش هذا النفوذ وإظهاره سلبيّاً لا إيجابيّاً في ظلّ تصاعد النقمة الشعبية على العهد والحزب، التي تلقى أصداءً طائفيةً بالنظر إلى طبيعة الاجتماع السياسي اللبناني.
لذا يتمثّل العامل الأساسي المحدِّد لتطوّرات الأزمة اللبنانية اليوم في كيفيّة تصرّف حزب الله إزاء اصطدامه بواقع الانهيار المعطوف على واقع تجذُّر المعادلة الشعبية – الطائفية ضدّه. الأكيد أنّ مغالاة الحزب في محاولة تعويم تفاهم مار مخايل، كما ظهر في خطاب نصرالله الإثنين، تشكّل إحدى أبرز دلالات ارتباك الحزب راهناً. فأيّ ارتباك أشدّ من محاولة إحياء تفاهم مع تيّار هو الآن في ذروة ضعفه، ولا سيّما أنّ إصرار الحزب على إعادة إحياء هذا التفاهم من جديد، يُظهر أيضاً محدوديّة خياراته السياسيّة، وبالتحديد على الساحة المسيحية؟ ولو كنّا في وضع سياسي “طبيعي” لأمكن القول إنّ خطاب نصرالله الإثنين هدفه رفع سقف التفاوض مع رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع.
إقرأ أيضاً: الحزب تسبّب بأسوأ من حرب أهليّة
في المحصّلة، دخل لبنان مرحلة شديدة الحساسيّة والخطورة عنوانها الرئيسي ارتباك حزب الله في التعاطي مع المرحلة المقبلة، وتحديداً عشيّة الانتخابات النيابية المقرّرة، مبدئيّاً، في 27 آذار المقبل. ولا سيّما أنّ الحزب لا يضمن حيازته الغالبية النيابية فيها كما حدث في عام 2018، وقد أرخت نتائج الانتخابات العراقية بظلال ثقيلة عليه. لكن قبل الوصول إلى الانتخابات، تكمن الخطورة القصوى في الترجمات السياسية والميدانية لارتباك الحزب، وليست أحداث الطيّونة وعين الرمّانة، وما تلاها من تصعيد غير مسبوق ضدّ القوات اللبنانية، سوى ترجمة أوّليّة لهذا الارتباك. فهل كان سمير جعجع “يحلمُ” أنّ يخصّص له “سيّد المقاومة” أطول خطاباته؟ حتّى لو اتّهمه بالتخطيط للحرب الأهليّة فإنّ هتاف “شيعة شيعة شيعة” على أبواب عين الرمّانة يدفع بأقلّ تقدير إلى التشكُّك في هذا الاتّهام.
ثمّ هل تستحقّ “المعركة” مع القوات اللبنانية أن يكشف نصرالله سرّاً رئيسياً من أسرار حزبه، وهو عدد مقاتليه المنظّمين؟