أُضيفَ إلى عدد ضحايا تفجير مرفأ بيروت سبع ضحايا جدد وعشرات المصابين، وهي حصيلة الصدام المسلّح غير المتوقَّع، مثل تفجير المرفأ، في الضاحية الجنوبية لبيروت (الطيّونة-عين الرمّانة). مع ذلك لا يزال التحقيق في أوّله. ولا يزال يدور في حلقة مفرغة. بل إنّه لا يزال يتمحور حول المحقّق نفسه وليس حول الجريمة ومرتكبيها. وهذا يعني أنّنا لا نزال في أوّل الطريق. وهو ما يعني أيضاً أنّ أمامنا، لا سمح الله، تقديم المزيد من الضحايا قبل أن نصل إلى الحقيقة، وربّما حتّى لا نصل إلى الحقيقة.
لم يسقط الضحايا الجدد بتفجير النيترات، ولكنّهم سقطوا بتفجير الأحقاد. وهي أشدّ فتكاً. اللبنانيون يعرفون ذلك جيّداً. وقد دفعوا ثمنه غالياً من قبل. ولكنّهم لم يتعلّموا الدرس، بل لعلّهم يرفضون أن يتعلّموا الدرس. ومَن لا يتعلّم من أخطاء الماضي يقع فيها مرّة ثانية.. وثالثة.
الجريمة السياسية في لبنان أثبتت أنّها فوق كلّ تحقيق. بل هي مستعصية على التحقيق، ليس بسبب غموضها أو قدرة أبطالها على التستّر والاختباء، لكن بسبب القدرة على ليّ يد القضاء
لا يفتقر لبنان إلى قضاة يتمتّعون بدرجة عالية من العلوم والمعارف القانونيّة، ومن الضمير الإنساني. ولكنّ القبضة السياسية على القضاء تكاد تخنقه (وتعطيل قرار التشكيلات القضائية نموذج لهذا الخنق). ولإنقاذ القضاء من هذه المحنة المتمادية كان التطلّع منذ بدايات جريمة التفجير إلى التحقيق الخارجيّ. فليكن عربيّاً، إذا أمكن وإذا توافر، ودوليّاً، إذا اقتضت الظروف الموضوعيّة. ولكن لم يحدث لا هذا ولا ذاك. أو لم يُسمَح لأيٍّ منهما بأن يحدث. وقد كان التحقيق الدولي، ثمّ المحاكمة الدوليّة، في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، غير مشجّعيْن في نتائجهما. فالمحكمة الدوليّة لا تُدين دولاً ولا مؤسساتٍ ولا أحزاباً، لكنّها تُدين أشخاصاً فقط. ولذلك جاء حكمها، الذي كلّف الملايين من الدولارات، باهتاً، لا يُسمن ولا يغني من جوع لمعرفة الحقيقة الكاملة.
ربّما يكون ذلك قد شجّع على المضيّ قدماً في التحقيق الداخلي اللبناني في جريمة العصر. ولكنّ النتيجة ما كانت في حجم الآمال المعقودة عليها. بل لعلّها كانت مخيِّبة للآمال. وهي الخيبة التي عبّرت عنها الاحتجاجات، التي انفجرت في الطيّونة-عين الرمّانة، لتضيف إلى ضحايا كارثة تفجير المرفأ ضحايا جددا.
لم يُحاسَب أحد على ما جرى في السابق. فالجريمة السياسية في لبنان أثبتت أنّها فوق كلّ تحقيق. بل هي مستعصية على التحقيق، ليس بسبب غموضها أو قدرة أبطالها على التستّر والاختباء، لكن بسبب القدرة على ليّ يد القضاء.
إقرأ أيضاً: “الشارع بالشارع”.. مجانينُ نحن اللبنانيّين
من هنا فإنّ تسييس جريمة تفجير المرفأ هدفه، كما يبدو، هو إخراجها من دائرة التحقيق والمحاسبة، حتى تكون مجرّد جريمة تُضاف إلى ما سبقها، وما أكثر ما سبقها: نعرِّف الضحايا ونبكي عليهم، ونجهِّل المتّهمين ونتباهى بهم.
فمِن فنون طمس الحقائق اختلاق وقائع جديدة، وتحويل هذه الوقائع إلى حقائق تتصدّر سلّم الأولويّات والاهتمام. وهكذا من تفجير المرفأ.. إلى تفجير التحقيق.. إلى تفجير الشارع.. ماذا بعد؟.. الله يستر!!