سريعاً جدّاً ظهرت ارتدادات الحدث الأفغاني في الساحة اللبنانية، سواء في إعلان الأمين العامّ لحزب الله عن استقدام الحزب باخرة نفط إيرانية في ظلّ أزمة المحروقات المتفاقمة التي بدأت تنذر بشلل اقتصادي كلّي في البلاد، أو في الردّ الأميركي على خطوة الحزب تلك من خلال إعلان السفيرة الأميركية في بيروت عن “متابعة مساعدة لبنان لاستجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا، وتسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا وصولاً إلى شمال لبنان”.
كان السيّد حسن نصرالله قد أعلن منذ أشهر عن استعداد إيران تزويد لبنان بالمحروقات على أن تدفع الحكومة اللبنانية ثمنها بالليرة اللبنانية. وبعد عدم تجاوب الحكومة المتوقّع أصلاً مع اقتراحه، لوّح باستيراد النفط الإيراني بمبادرة خاصّة من قِبل الحزب وخارج الأطر الإدارية والقانونية المعمول بها.
خطوة الحزب باستقدام باخرة المحروقات الإيرانية، والردّ الأميركي السريع عليها بتحريك ملف استجرار الكهرباء من الأردن، والغاز من مصر، ينقلان الصراع بين الطرفين على المسرح اللبناني إلى مرحلة جديدة عنوانها الرئيس وضع لبنان في صلب الخريطة الجيوسياسية المتحرّكة في المنطقة
لكن على الرغم من الإنذارات المبكرة باستفحال أزمة المحروقات فإنّ نصرالله لم يُقدم على تنفيذ “تهديده” إلّا في توقيت محدّد، وهو توقيت الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي اعتبره الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي “هزيمة للأميركيين”.
وهكذا لا يرجع توقيت إعلان نصرالله عن استقدام باخرة النفط الإيرانية إلى تفاقم أزمة المحروقات وما تسبّبه من نقمة شعبية لم يسلم منها الحزب نفسه وحسب، بل إنّه توقيت سياسي بامتياز رمت طهران من خلاله إلى تحدّي الأميركيين على الساحة اللبنانية في لحظة “هزيمتهم” الأفغانية.
كما تهدف خطوة إيران هذه إلى اختبار طبيعة الردّ الأميركي عليها، وذلك في سياق تصعيدها المتواصل ضدّ الولايات المتحدة عشيّة استئناف المفاوضات النووية في فيينا المتوقّع في أيلول وسط ازدياد التعقيدات والعقبات التي تعترض هذه المفاوضات، ولا سيّما في أعقاب انتخاب رئيسي وتشكيل حكومة تحدٍّ للغرب ضمّت وزراء راديكاليين، أحدهم مطلوب لـ”الأنتربول”، (هو أحمد وحيدي الذي رشّحه رئيسي لتولّي منصب وزارة الداخلية) ومواصلة طهران زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم. دفعت كلّ تلك التعقيدات المبعوث الأميركي إلى إيران روبرت مالي، وهو أكثر أعضاء فريق بايدن حماسةً لإحياء الاتفاق معها، إلى التشكُّك في نجاح مهمّته، والحديث عن “احتمالات أخرى”.
بيد أنّ إعلان نصرالله ذاك لا يحيل إلى الحدث الأفغاني من الناحية المذكورة وحسب، إذ إنّ استقدام الحزب لباخرة النفط الإيرانية بمعزل عن الدولة اللبنانية يُسقط النموذج الأفغاني على الواقع اللبناني. فإذا كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان أدّى إلى انهيار الدولة المركزية وسيطرة حركة “طالبان” على البلاد، فإنّ تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان يعمّق تفكّك الدولة المركزية ويزيد عجزها عن تأدية وظائفها الرئيسة، وهو ما يتيح لحزب الله فرض نفسه بديلاً من الدولة وقائماً بوظائفها بتواطؤ ضمنيّ من السلطة السياسيّة التي لم تنبس ببنت شفة بإزاء إعلان نصرالله.
لكن هل يستطيع الحزب فعل ذلك؟
خطوة الحزب باستقدام باخرة المحروقات الإيرانية، والردّ الأميركي السريع عليها بتحريك ملف استجرار الكهرباء من الأردن، والغاز من مصر، ينقلان الصراع بين الطرفين على المسرح اللبناني إلى مرحلة جديدة عنوانها الرئيس وضع لبنان في صلب الخريطة الجيوسياسية المتحرّكة في المنطقة، في وقت كانت المبادرة الفرنسية منذ آب 2020 تقوم على إمكان عزل لبنان عن تأثيرات الصراع الإقليمي والدولي.
فمن ناحية، قد يعرِّض “استقبال” الناقلة الإيرانية لبنان لخطر العقوبات الأميركية المفروضة على قطاع النفط الإيراني، وهذا إذا حصل سيكون توريطاً سياسياً واقتصادياً للدولة اللبنانية التي لا تقوى على مواكبة الأزمة بالحدود الدنيا، فكيف إذا فُرِضت عليها عقوبات أميركية؟
على الرغم من الإنذارات المبكرة باستفحال أزمة المحروقات فإنّ نصرالله لم يُقدم على تنفيذ “تهديده” إلّا في توقيت محدّد، وهو توقيت الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي اعتبره الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي “هزيمة للأميركيين”.
من ناحية ثانية، فإنّ مرور الطاقة المستجرّة من الأردن، والغاز المستجرّ من مصر، عبر الشبكة والأراضي السورية، يحيل إلى الترتيبات الأميركية الروسية الجديدة في سوريا منذ لقاء الرئيسين الأميركي والروسي في جنيف في حزيران الماضي. إذ لا يمكن للوعد الأميركي بمدّ لبنان بالطاقة الأردنية وبالغاز المصري أنّ يتحقّق من دون استثناءات من عقوبات “قانون قيصر”. وهذا الأمر إذا حصل فسيكون ثمرة توسّع الاتفاق الروسي – الأميركي حول سوريا.
لذا تتحوّل أزمة المحروقات اللبنانية، أيّاً تكن سيناريوهاتها، مؤشّراً رئيساً لتحوّلات جيوسياسية في المنطقة مرتبطة أساساً بكيفية تعاطي الولايات المتحدة مع الملف النووي الإيراني ومع الأزمة السورية. ومن المرجّح أن يكون الحدث الأفغاني حدثاً مؤثّراً جدّاً في طبيعة الخيارات الأميركية، سواء بالتشدّد أو اللين، بالنظر إلى الجدال الواسع الذي أثاره الانسحاب الأميركي من أفغانستان في الداخل الأميركي. وسيثير تساهل واشنطن في الملف النووي أو في الملف السوري مزيداً من الانتقادات للإدارة الأميركية، وهو ما لا يمكن التقليل من تأثيراته على خياراتها في المنطقة.
هذا التداخل الكبير بين ملفّات المنطقة يسلّط الضوء على محدوديّة خطوة نصرالله في إطار الخريطة الواسعة للصراع الإقليمي والدولي. فإذا سلّمنا جدلاً أنّ الحزب استطاع إيصال حمولة الناقلة الإيرانية إلى لبنان وتوزيعها من دون أن تعترضها إسرائيل أو الولايات المتحدة، فما الخطوة التالية للحزب؟ هل يستقدم ناقلات أخرى وبالطريقة نفسها، أي بمعزل عن الدولة اللبنانية؟ وإذا استطاع الحزب إيصال الباخرة الأولى بغضّ طرفٍ إقليميّ ودوليّ، فهل يضمن إيصال البقيّة من دون ردود فعل أمنيّة ضدّ الباخرة، وسياسية واقتصادية ضدّ الدولة اللبنانية من خلال فرض عقوبات عليها؟
وإذا كان الحزب يريد من استقدام الناقلة الإيرانية “فكّ الحصار” عن لبنان، أو بالأحرى إسقاط التهمة عنه بأنّه سبب حصار لبنان، فإنّ خطوته تلك هي انخراط كبير من جانبه في توفير حاجات اللبنانيين بدلاً من الدولة؟ فإلى أيّ حدّ يمكنه النجاح في ذلك؟ وألا يرتّب عليه ذلك مسؤولية تجاه اللبنانيين، أو بالحدّ الأدنى تجاه بيئته إذا أخفق في تنفيذ وعوده لهم في ظلّ خريطة الصراعات الإقليمية الدولية المعقّدة والمتحرّكة باستمرار؟
تتحوّل أزمة المحروقات اللبنانية، أيّاً تكن سيناريوهاتها، مؤشّراً رئيساً لتحوّلات جيوسياسية في المنطقة مرتبطة أساساً بكيفية تعاطي الولايات المتحدة مع الملف النووي الإيراني ومع الأزمة السورية
لعلّ تصريح النائب حسن فضل الله السبت بأنّ الإعلان عن استقدام الباخرة الإيرانية حفّز واشنطن على السماح باستجرار الطاقة من الأردن، والغاز من مصر، يحتوي ضمناً على اعتراف الحزب بمحدوديّة خطوته، إذ أعطاها وظيفة غير وظيفتها الأصلية، وهي توفير حاجة لبنان من المحروقات، وهو ما يؤكّد على أنّها مناورة سياسية إعلامية أكثر منها مبادرة اقتصادية مستدامة. هذا فضلاً عن أنّ إعلان إيران الإثنين عن استعدادها لبيع الوقود إلى الحكومة اللبنانية يعبّر أيضاً عن محدودية خطوة الحزب ومحاذيرها، وإلّا لكانت طهران اكتفت بها ولم تُثر مسألة التعامل مع حكومة لبنان.
الإعلان عن استقدام الباخرة الآن يتمّ في لحظة فراغ حكومي، فهل خطوة الحزب تلك هي إعلان من قبله عن عدم رغبته في تأليف حكومة؟ لكن في حال لم تُؤلَّف الحكومة فإنّ الحزب سيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع جمهوره وفئات مؤيّدة له من اللبنانيين ترى فيه “مخلِّصاً”، وهو ما سيضعه أمام امتحان صعب في ظلّ عدم قدرته على تلبية حاجاتهم. أمّا إذا تألّفت الحكومة فهل تستطيع تغطية الخطوات الاقتصادية “الأحاديّة” للحزب؟ قطعاً لا. وإذا غضّ الأميركيون الطرف عن السفينة الآتية إلى الحزب في لحظة فراغ حكومي، فهل يمكنهم التساهل مع تغطية حكومة مكتملة المواصفات الدستورية لخطوات الحزب تلك؟
إقرأ أيضاً: الحزب والباخرة وإسرائيل… في البيت الأبيض
أمّا السؤال الأبرز فيتعلّق بموقف رئيس الجمهورية الساكت عن إعلان نصرالله وكأنّه يحصل في بلد آخر. والطامة الكبرى أنّ الرئيس وفريقه يحاولان اللعب على تناقضات الصراع الأميركي – الإيراني، ولذلك اطمأنّ العهد إلى إبلاغ السفيرة الأميركية له بخطوة استجرار الطاقة من الأردن، وكأنّ هذا الإبلاغ اعتراف به.
لكنّ الحقيقة أنّ العهد يستمرّ في تغطية قرارات الحزب التي تكشف لبنان أمنيّاً واقتصادياً أمام صراعات المنطقة. أوليس هذا حجّة كافية للمطالبة باستقالة الرئيس؟ فحتّى لو لم يستقِل فإنّ مقاطعته سياسياً باتت أوّل الطريق لمقاومة رهن الحزب والعهد لبنانَ بالأولويّات الإيرانية، خصوصاً أنّ كلا الطرفين يأسران تأليف الحكومة منذ عام كامل.