بين البشير وبشّار…

مدة القراءة 6 د

تظلّ العدالة الانتقائية أفضل من الغياب الكامل للعدالة. أن يُعاقَب عمر حسن البشير بعدما أمضى ثلاثين عاماً يتحكّم بالسودان ومصير السودانيين أفضل من ألّا يُعاقَب. سيأتي تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية تتويجاً لنضال طويل خاضه الشعب السوداني من أجل التخلّص من نير الإخوان المسلمين وفكرهم المتخلّف الذي حوّل بلداً واعداً، مثل السودان، إلى بلد يحتاج إلى سنوات طويلة من أجل العودة إلى حكم مدني. لا يزال السودان يحتاج في أيّامنا هذه إلى رعاية العسكر، ولكن إلى عسكر مستنيرين يعرفون كيفيّة التمهيد لتسليم السلطة إلى المدنيين في مرحلة معيّنة.

في كلّ ما قام به البشير طوال ثلاثين عاماً، لم يكن لديه من همّ سوى الاحتفاظ بالسلطة. أطلق ميليشياته في كلّ الاتجاهات من أجل إثبات أن لا أحد يمكنه أن يتفوّق عليه في القمع في الداخل السوداني

ثمّة مَن سيقول إنّ هناك مَن ارتكب فظائع تفوق بكثير ما ارتكبه البشير والذين كانوا حوله. التركيز في هذا المجال على ما فعله بشّار الأسد الذي ورث سوريا عن والده، وحوّلها إلى بلد تحت خمسة احتلالات، صار معظم أهله مشرّدين أو مهجّرين. على الرغم من ذلك، لا يزال بشّار الأسد متمسّكاً بالسلطة، رافضاً أن يأخذ علماً بما يدور في سوريا، وعدد القتلى الذين ذهبوا ضحية نظامه. تقدّر الهيئات الدوليّة المحايدة عدد ضحايا الأسد الابن بنحو نصف مليون. بالنسبة إليه، لم يحصل شيء في سوريا التي تكفّل بتفتيتها…

ليست المقارنة بين فظائع البشير وفظائع بشّار كافية لتبرير ما ارتكبه الرئيس السوداني السابق في حقّ السودان والسودانيين. ليست المقارنة كافية للقول إنّ تسليمه المتوقّع للمحكمة الجنائيّة بمنزلة ظلم له نظراً إلى أنّ بشّار الأسد ما زال حرّاً طليقاً يسرح ويمرح في دمشق ومحيطها.

المهمّ في الأمر أنّ الموقف الذي اتّخذته السلطات السودانية، والقاضي بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، يظلّ محطة لا بدّ من التوقّف عندها. يعود ذلك إلى أنّ وجود المحكمة الجنائيّة الدوليّة في حدّ ذاته يثبت أنّ هناك عدالة دوليّة تلاحق المجرمين، وأن لا مجال للإفلات من العقاب في نهاية المطاف. هذا ما حصل مع مرتكبي الجرائم في يوغوسلافيا في الحروب التي خاضتها شعوبها فيما بينها. ارتكب جنرالات ومسؤولون صرب مجازر في حق الآخرين، خصوصاً في البوسنة. وُجِد أخيراً مَن يضع حدّاً لهؤلاء، ويؤكّد أنّ ثمّة نوعاً من العدالة في هذا العالم… وأنّ السياسة شيء والبهلوانيات شيء آخر.

مارس عمر حسن البشير كلّ أنواع البهلوانيات منذ تولّى السلطة إثر انقلاب عسكري برعاية حسن الترابي في عام 1989. استطاع التخلّص من الترابي الذي اعتقد أنّ في استطاعته استخدام صغار الضباط خدمةً لمشروع كان يؤمن به. كان هذا المشروع، الذي ذهب زعيم الإخوان المسلمين في السودان ضحيّته، غير قابل للحياة، وقد استخدم البشير أخطاء الترابي ليضع حدّاً لطموحاته. كاد أن ينفّذ حكم الإعدام بالترابي مرّتين لولا تدخّل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي ربطته به علاقة جيّدة لسنوات طويلة.

في كلّ ما قام به البشير طوال ثلاثين عاماً، لم يكن لديه من همّ سوى الاحتفاظ بالسلطة. أطلق ميليشياته في كلّ الاتجاهات من أجل إثبات أن لا أحد يمكنه أن يتفوّق عليه في القمع في الداخل السوداني. تبقى أحداث دارفور وما ارتكبه الجنجويد خير دليل على ذلك… وعلى مدى شبقه إلى السلطة.

 ليس ما يشير إلى الآن أنّ بشّار تعلّم شيئاً من البشير، لكنّ ما لا بدّ من الإشارة إليه أنّ خيطاً رفيعاً يجمع بين الرجلين

كان مثيراً امتلاك البشير لشخصيّات عدّة. عندما وجد أنّ القمع لا ينفع، لجأ إلى المرونة. في التاسع من تموز من عام 2011، انفصلت جمهورية جنوب السودان عن الشمال لتصبح أحدث دولة مستقلّة في العالم، وذلك نتيجة اتفاق سلام أُبرِم في عام 2005 أنهى أطول حرب أهلية في إفريقيا.

من أجل السلطة، كان كلّ شيء مبرّراً من وجهة نظر عمر حسن البشير الذي استخفّ بالمحكمة الجنائيّة الدوليّة في البداية. اعتقد أنّ قبوله بتقسيم السودان سيكفل له البقاء في السلطة إلى مدى الحياة. لم يكتشف إلا متأخّراً أنّ الشعب السوداني ما زال يمتلك القدرة على مقاومة نظامه المتخلّف، وذلك على الرغم من الفشل الذريع للسياسيين السودانيين والأحزاب التي يمثّلونها في كلّ مرّة تسلّموا فيها السلطة منذ الاستقلال في عام 1956. سهّل السياسيون السودانيون تولّي اللواء إبراهيم عبود السلطة في تشرين الثاني من عام 1958 قبل أن يخلعه الشعب في عام 1964 في ظلّ تظاهرات كان شعارها “إلى الثكنات يا حشرات”. أجبر السودانيون العسكر على العودة إلى ثكناتهم ليقوم مجدّداً حكمٌ مدنيٌّ أنهاه جعفر النميري في عام 1969 منادياً بشعارات وحدوية مضحكة مبكية من نوع تلك التي كان يستخدمها جمال عبد الناصر.

يبقى أنّ تجربة السودان مع عمر حسن البشير والمحكمة الجنائية تبعث ببعض الأمل في اتجاهين. الأوّل أن يتعلّم السودانيون من التجارب التي مرّوا بها منذ الاستقلال، وأن تكون المرحلة الانتقالية الحالية فرصة كي يلتقط البلد أنفاسه. ما يدعو الى التفاؤل، وإن نسبياً، أنّ هناك نوعاً من التوازن بين العسكر والمدنيين… في انتظار ولادة سودان جديد بعيداً عن شعارات البشير والنميري، أي سودان على تماس مع كلّ ما هو حضاري في المنطقة والعالم، لا علاقة له بالشعارات الناصريّة والإخوانيّة في الوقت ذاته. سودان متصالح مع نفسه أوّلاً.

أمّا الاتجاه الثاني الذي يدعو إلى التمسّك بالأمل، فهو أنّ العدالة آتية يوماً. لا يمكن لِما ارتكبه النظام السوري في حربه المستمرّة بطريقة أو بأخرى على السوريين أن يبقى من دون عقاب.

إقرأ أيضاً: سوق لبيع القلوب في سوريا!

كان عمر حسن البشير رئيس الدولة العربي الوحيد الذي زار دمشق في مرحلة ما بعد بدء الثورة الشعبيّة في سوريا في عام 2011. التقى بشّار الأسد. الأكيد أنّهما بحثا في أفضل الوسائل التي يمكن أن تُستخدَم لقمع الشعبين السوري والسوداني. ليس ما يشير إلى الآن أنّ بشّار تعلّم شيئاً من البشير، لكنّ ما لا بدّ من الإشارة إليه أنّ خيطاً رفيعاً يجمع بين الرجلين، بين البشير وبشّار. يتمثّل هذا الخيط في الاعتقاد بأنّ البهلوانيات يمكن أن تحلّ مكان السياسة الواضحة… التي تعني قبل أيّ شيء آخر أنّ بلداناً، مثل السودان وسوريا، تحتاج إلى تغيير في العمق يتجاوز الأشخاص إلى طبيعة النظام، وإلى التوقّف عن المتاجرة بالشعارات والتنقّل بين إيران وروسيا أو بين روسيا وإيران. فما كشفته الأحداث أنّ أكثر ما يجمع بين البشير وبشّار أنّ أيّاً منهما لم يعرف ما هو شعبه وما طبيعة هذا الشعب. البشير لم يعرف السودانيين… وبشّار لم يعرف السوريين!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…