من على أثير إذاعة “المدينة إف إم” الموالية للنظام، قال أحدُ المتّصلين بأنّه يعرض قلبه للبيع من أجل ألَّا يجوع أطفاله!!
لم يكن ذلك المتّصلُ الوحيدَ الذي قدَّم هذا “العرض” المروِّع. آخرون، قبله وبعده، فعلوا ذلك.
سوق بيع الكلى في سوريا شارف على الكساد، بسبب كثرة المعروض وهبوط السعر إلى أقلّ من خمسة ملايين ليرة للكلية الواحدة (حوالى 1500 دولار بحسب تصريف اليوم، ويمكنه أن ينخفض إلى نصف القيمة صباح الغد أو بعده بسبب الانهيار المتسارع للعملة السورية).
في مقال سابق، كتبتُ متأثِّراً عن بيع النساء السوريات لشعورهنَّ وجدائلهنَّ، وبيع الشبَّان السوريين لكلاهم. اليوم أكتب عن بيع السوريين لقلوبهم!
لقد وصلنا إلى المرحلة التي نكتب فيها عن بيع الإنسان السوري لحياته، عن خجله من وجوده، أو خجله من كونه أباً عاجزاً عن إطعام أطفاله
لسنا متأكّدين، حتى الآن، من أنَّ أحداً قد باع قلبه فعلاً. لسنا متأكّدين من أنَّ ثمَّة شخصاً قبضتْ أُسرته مالاً مقابل أن يدخل إلى غرفة العمليّات ويغادر بعدها إلى المقبرة. لكنّنا متأكّدون من جدّيّة الذين يعرضون قلوبهم للبيع إنقاذاً لأُسَرهم وأطفالهم.
لم يبقَ أمام بعض الآباء والأمَّهات في سوريا من خيارٍ سوى أن يطعموا الأبناء من أجسادهم. حرفيّاً، لم يبقَ أمامهم سوى تحويل قلوبهم وأعضائهم إلى طحين وخبز وطعام.
إنَّ يأس الأب أمام نظرات أطفاله الجوعى أقسى بكثيرٍ من موته. وإنَّ خجله من بكائهم يجعل فكرة الموت بمقابل مادّيّ أقلّ الحلول ألماً.
لقد وصلنا إلى المرحلة التي نكتب فيها عن بيع الإنسان السوري لحياته، عن خجله من وجوده، أو خجله من كونه أباً عاجزاً عن إطعام أطفاله.
قبل أسابيع انتشرت صور لطفلتَيْن تركهما والدهما أمام “مشفى المواساة” بمنطقة المزَّة بدمشق مع ورقةٍ كُتبَ عليها أنّهما بحاجة ماسَّة إلى الطعام، مختتماً الرسالة بطلب السماح من الطفلتَيْن.
وقبل أشهر روت الممثّلة هدى شعراوي حكايتها مع رجلٍ كان يقف في أحد شوارع دمشق عارضاً ابنته للبيع من أجل أن يُطعم بقيَّة إخوتها.
آباء يعرضون قلوبهم للبيع من أجل إطعام أطفالهم، وآباء يبيعون واحداً من أطفالهم من أجل إطعام البقيَّة، وآباء يهربون تاركين الأطفال مع قصاصة ورقية ترجو العابرين إطعامهم وترجو المتروكين مسامحتهم.
أمثال هذه القصص المروِّعة، التي ترقى إلى أن تكون مجازرَ وجدانيةً، باتت يومياتٍ عاديةً في حياة السوريين في مناطق النظام بعدما فقدتْ استثناءها، حيث المجاعة، التي تقترب يوماً بعد آخر من أن تأخذ معناها الحرفيّ، هي السائدة، وحيث امتهان الكرامة الإنسانية تفشَّى في كلّ الأمكنة حتى بلغَ الأمعاء.
الأحاديث التي قرأناها في كتب التاريخ عن “مجاعة الشام” سنة 1915، وكان سببُها الحصار والجراد ومصادرة العثمانيين لجزء كبير من المحاصيل لإطعام جيشهم المشارك في “الحرب العظمى”، بدأنا نسمع عن أشباهها المخفَّفة في سوريا، بعدما رأينا أشباهها الثقيلة أثناء حصار جيش النظام لبعض المدن الثائرة (باستثناء الألوان، لا تختلف بشيء صور المجاعة في بلدة مضايا السورية عن الصور الشهيرة لمجاعة جبل لبنان التي التقطها إبراهيم نعوم كنعان أثناء الحرب العالمية الأولى).
إقرأ أيضاً: معتقلات الخبز
وأثناء كتابة هذه السطور، صدر قرارٌ جديدٌ عن حكومة الأسد يقضي بتقليل حصَّة الخبز للسوريين، التي كان قد جرى تقليلها، سابقاً، مرَّاتٍ ومرَّاتٍ.
ومع كلّ تقليلٍ لحصَّة الخبز، تتضاءل أحلام الإنسان السوري، وتصغر وتصغر إلى أن تتَّسع لها أمعاؤه.