لم يتأخّر النائب نهاد المشنوق في التوجّه إلى قصر العدل، كما أعلن في مؤتمره الصحافي الذي عقده في مجلس النواب على أثر تأجيل جلسة مجلس النواب التي كانت مخصّصة لمناقشة العريضة الاتهامية، بغية إبلاغ المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار بنيّته الإدلاء بإفادته (وقد رفض الأخير طلبه)، على اعتبار أنّ النائب البيروتي هو “المُدّعى عليه” الوحيد بين رزمة الادّعاءات التي سطّرها المحقق العدلي، الذي لم يستمع إليه، ومع ذلك شمله بتهمة “القصد الاحتمالي” بناء على مراسلة إدارية وحيدة وصلت المشنوق حين كان وزيراً للداخلية في عام 2014 تتعلّق بحجز الباخرة “روسوس” بناء على قرار قضائي يحظر عليها مغادرة المرفأ، وعليها “عدّة أطنان من المواد الشديدة الخطورة”، أي لم تنزل على الأراضي اللبنانية بل ستغادرها.
مصادر نيابية: أي خطوة من جانب البيطار تنتظر قرار مجلس النواب ببتّ الحصانة ورفعها، وهو أمر من المستبعد حصوله في الوقت الراهن، خصوصاً اذا قرّر برّي غضّ النظر عن مسألة لجنة التحقيق البرلمانية
سبق للمشنوق أن أعلن أكثر من مرّة أنّ علاقته بهذا الملف تتّصل بذلك الكتاب الوحيد، الذي لم ترد من بعده أيّ مراسلة إدارية أو أمنيّة تتعلق بالباخرة طوال فترة تولّيه مهامّ وزارة الداخلية، ليضيف بذلك سيلاً من علامات الاستفهام عن مسلكية القاضي البيطار في تحقيق العدالة وتبيان الحقيقة، خصوصاً أنّ ما خرج من محفظة البيطار “الادّعائية” إلى الآن، لا يشي بأنّه حريص على تحقيق هذا الهدف في ظلّ الاستنسابية وازدواجية المعايير اللتين اعتمدهما في قراراته، وإصراره على تغليب الشق الإداري في الملف على غيره من المسارات، فيما يستدعي التحقيق أن يوجّه تركيزه على بدايات هذه الجريمة الاستثنائية، لتقديم أجوبة شافية حول الجهات التي استقدمت النيترات، وتلك التي أبقت عليه مخزّناً في المرفأ، وصولاً إلى حلّ لغز انفجار الرابع من آب وكيفيّة حصوله.
في الواقع، فإنّ المسار المتعرّج، الذي سلكه المحقق العدلي، فرض مساراً سياسياً لا يقلّ تعرّجاً، أهمّ ما فيه انقسام حادّ اتّخذ طابعاً طائفياً مقيتاً بين الكتل النيابية قد يعيد خلط أوراق التحالفات ويزيد من حدّة الاصطفافات بشكل يضيّع الحقيقة، بعدما جرّت “القوات” العونيين إلى المزايدة الشعبوية حول رفع الحصانات والتحقيق في قضية المرفأ، فقط من باب “التسوّل الانتخابي” الرخيص.
ثمّة جبهة “إسقاط الحصانات” التي تلطّت خلف دماء الشهداء ودموع عائلاتهم ومحبّيهم، ولو أنّ خطاباتها غير موائمة للمنطق السليم، ذلك لأنّ “التيار الوطني الحر” لا يستطيع أن يقنع أهالي الضحايا بأنّ إصرار رئيس الجمهورية على حماية المدير العام لأمن الدولة اللواء أنطوان صليبا من خلال المجلس الأعلى للدفاع هو إصرار مبرّر، وذلك من خلال إعادة ملفّ حصانته إلى النيابة العامة التمييزية، مع العلم أنّ رئاسة الجمهورية هي التي لجأت إلى هيئة الاستشارات في وزارة العدل لسؤالها عن الجهة المخوّلة بتّ الحصانة. وقد أفتت الأخيرة بأنّ المسؤولية تقع على عاتق المجلس الأعلى للدفاع، الذي بدا بالنسبة إلى المحقّق العدلي وكأنّه شاهد زور، وهو الذي كان يعلم بوجود النيترات ولم يحرّك ساكناً… ولا يستطيع “التيار” أن يقنع الناس بأنّ خطابه ليس ملوّثاً بالازدواجية والشعبوية السطحية.
سبق للمشنوق أن أعلن أكثر من مرّة أنّ علاقته بهذا الملف تتصل بذلك الكتاب الوحيد، والذي لم ترد من بعده أي مراسلة إدارية أو أمنية تتعلق بالباخرة طوال فترة توليه مهام وزارة الداخلية، ليضيف بذلك سيلاً من علامات الاستفهام حول مسلكية القاضي البيطار
أكثر من ذلك، فالمجلس الأعلى للدفاع هو بمنزلة الطفل المدلّل و”الحكومة المصغّرة” لرئاسة الجمهورية التي لم تمانع يوم الأربعاء الماضي من تجاوز موقع رئاسة الحكومة لتعقد اجتماعاً للمجلس للنظر في حصانة اللواء صليبا على الرغم من غياب رئيس حكومة تصريف الأعمال، مع العلم أنّ جدول أعمال المجلس يوضع بإشراف رئاسة الجمهورية من دون أن يكون للأمانة العامة للمجلس الأعلى أيّ دور فعلي.
وهذه النقطة بالذات تتمّ مناقشتها على طاولة المحقق العدلي، كما يتردّد في الأوساط القضائية، لكون رئاسة الجمهورية لم تبادر إلى الدعوة إلى انعقاد مجلس الدفاع الأعلى، وهي التي اعترفت في أعقاب انفجار الرابع من آب، بأنّ المستشار العسكري والأمني لرئيس الجمهورية أعلم الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع بالموضوع فور تلقّي الرئيس ميشال عون تقريراً من المديرية العامة لأمن الدولة عن “وجود كمية كبيرة من نيترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفأ بيروت”، لافتة إلى أنّ “الأمين العام للمجلس (الأعلى للدفاع) قد أُبلغ بنص التقرير، على ما أفاد في بيانه التوضيحي بتاريخ 8 آب 2020، وأحاله (التقرير) إلى المراجع المختصة”.
كذلك لا يمكن للقوات أن تقنع الجمهور بأنّ رفع الحصانات بالمطلق يسمو على دور مجلس النواب، وهي التي استعانت بالسلطة التشريعية لكي تعدّل قانون العفو العام لإخراج رئيسها سمير جعجع من السجن. والأرجح أنّ الفريقين المسيحيين سيخسران ما تبقّى لهما من حلفاء من دون أن يربحا الشارع.
في المقابل قامت الجبهة الثانية تحت عنوان حماية الدستور من ضربه من بيت أبيه، فقط لاعتبارات انتخابية لا تمتّ للعدالة بصلة. ولهذا أصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري على عقد الجلسة النيابية، ولو أنّه كان يعلم مسبقاً أنّ مصيرها التأجيل الحتمي لعدم القدرة على تأمين النصاب، فضلاً عن كونها منقوصة الميثاقية المسيحية.
بالنتيجة، طارت الجلسة النيابية وسط مقاطعة كتل “الجمهورية القوية” و”تكتل لبنان القوي” و”اللقاء الديموقراطي”، لكنّ العريضة الاتهامية لا تزال سارية المفعول، وهي بنظر مصادر نيابية معنيّة بمنزلة حصانة نيابية للنواب الثلاثة المدّعى عليهم: علي حسن خليل، غازي زعيتر ونهاد المشنوق. أمّا الحصانة السياسية فهي التي تحمي حتى الآن، إلى أن يستكمل مجلس النواب مساره الدستوري، هذا إذا استكمل. وبالتالي فإنّ المحقق العدلي لا يستطيع، وفق القانون، استجواب هؤلاء، إذا لم تُرفع الحصانة النيابية والسياسية. وهو احتمال صعب جداً.
ما يعني، وفق المصادر النيابية، أنّ أي خطوة من جانب البيطار تنتظر قرار مجلس النواب ببتّ الحصانة ورفعها، وهو أمر من المستبعد حصوله في الوقت الراهن، خصوصاً إذا قرّر برّي غضّ النظر عن مسألة لجنة التحقيق البرلمانية إذا لم تعد الكتل المعترضة عن قرارها. وهو المرجّح. وبالتالي لن يدعو برّي في المقابل إلى أيّ جلسة لبتّ الحصانة.
إقرأ أيضاً: رفع الحصانات “فوراً”: شعبويّة وتصفية حسابات شخصيّة
وعلى الرغم من شموله بحصانة مجلس النواب ربطاً بالعريضة الاتهامية، فإنّ فنيانوس يتّجه إلى استئناف قرار نقابة محامي طرابلس التي منحت المحقق العدلي الإذن بملاحقته، وهو ما أكّده خلال كلامه في مجلس النواب. فيما من المنتظر أن لا يمثل دياب أمام المحقق العدلي في الموعد المحدّد له في 26 الجاري، مع العلم أنّه لم يتسلّم إلى الآن كتاب الادعاء. في حين أنّ المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم أمّن “حصانته” من خلال امتناع وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي عن منح إذن الملاحقة، ليعود المحامي العام التمييزي، القاضي غسان الخوري، ويردّ أيضاً طلب المحقق العدلي.