الدستور أكله الحمار

مدة القراءة 4 د

استعاد التونسيون مقطعاً مصوّراً لرئيسهم الدائم التأهّب قيس سعيّد، يُعبّر فيه عن خشيته الواضحة والملحوظة من أن يأكل دستورَ البلاد حمارٌ أو أتان، في استعارة طريفة لإحدى مسرحيات دريد لحام، حيث أكل الحمار دستور الضيعة، بعدما وضعوه في خُرجه.

لست معنيّاً، أقلّه في هذا النصّ، أن أحدّد الجهة التي أكلت الدستور في تونس، وهذا شأن أهلها أوّلاً وأخيراً، وهم بطبيعة الحال أدرى بشعابها.

ما يعنيني هي الفكرة بحدّ ذاتها. الدستور الذي أكله الحمار. وهذا الحمار طالما برع في التهام الدستور كلّما استدعته الحاجة إلى فعل ذلك.

يأكل الحمار دستورنا حين تقتضي المصالح والصفقات والتسويات التمديد لرئيس الجمهورية، والتمديد لمجلس النواب، خلافاً لكلّ النصوص الواضحة والقاطعة

لنعدْ إلى السؤال الأساس: ما هو الدستور؟ وما هي مهمّته؟

الجواب، بحسب كلّ التقاطعات التي لا تحتمل الشكّ أو الاختلاف، أنّ الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدّد القواعد الأساسية لشكل الدولة، وينظّم السلطات العامّة فيها، من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين السلطات وحدود كل سلطة، فضلاً عن الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات.

عظيم.

السؤال الثاني: هل لدينا في لبنان دستور نحتكم إليه وتنطبق عليه هذه المواصفات؟

الجواب القاطع أيضاً هو نعم. لدينا دستور شامل وواضح وكامل الأوصاف. تذابحنا طويلاً حول كلّ بند من بنوده. من الاستقلال إلى الطائف. حتى صار معمّداً بالدم والواقعية والواقع والجغرافيا والديموغرافيا والتوازن والخصوصية والفرادة وكلّ ما يرتصف في إطار الممكن والمتاح.

كمان عظيم. ولكن أين الدستور؟ 

لقد أكله الحمار.

يأكل الحمار دستورنا كلّما صار لزاماً علينا أن نحتكم إليه. يأكله كلّما اتّفقوا على تقاسم المغانم تحت الطاولة أو فوقها. ويأكله أيضاً كلّما اختلفوا، ولو على جنس الملائكة.

لدينا دستور واضح وضوح الشمس في قارعة النهار. طبّقوه أو عدّلوه. لكن لا يجوز أن نتركه في يد الحمار، يأكله كلّما جاع ويسحقه كلّما شبع

يأكل الحمار دستورنا حين يبتلع الجميع ألسنتهم حيال تنفيذ أبرز بنوده الإصلاحية، وكلٌّ منهم لأسبابه وغاياته ومصالحه، من إلغاء الطائفية السياسية إلى إنشاء مجلس الشيوخ، وقانون انتخابي خارج القيد الطائفي، واستقلالية القضاء.

يأكل الحمار دستورنا حين تقتضي المصالح والصفقات والتسويات التمديد لرئيس الجمهورية، والتمديد لمجلس النواب، خلافاً لكلّ النصوص الواضحة والقاطعة.

يأكل الحمار دستورنا حين تركب التسوية الإقليمية فنهرول نحو شرشحته وتعديله والعبث فيه تحت سقف العبارة الشهيرة: “لمرّة واحدة”. والمرّة صارت مرّتين ومرّات.

يأكل الحمار دستورنا حين يصير ممسحة. لزوم ما لا يلزم. مَن يطالبون بتطبيقه هم أنفسهم مَن يسارعون إلى تعليقه كلّما اصطدم بهم وبرغباتهم ومشاريعهم وجنونهم.

لست أدري، مثلاً، رقم الحكومة التي يُشكّلها الآن نجيب ميقاتي، وحاول أن يُشكّلها قبله مصطفى أديب وسعد الحريري. لكنّني أظنّها تجاوزت رقماً معتبراً لا يستوي معه أن نختلف على أبسط البديهيّات، التي قد تبدأ من منهجيّة النزِق سليم جريصاتي التي تقوم على قاعدة “إملأ الفراغ بالكلمة المناسبة”، ولا تنتهي بشكل الحكومة وتوزيع مقاعدها وأساسات تأليفها. ناهيك طبعاً عن الارتطام الدائم في الصلاحيّات، تماماً كما لو أنّنا نُشكّل الحكومة الأولى في تاريخ الجمهورية.

إقرأ أيضاً: ثوابت الوطن والدستور = مقاطعة رئيس الجمهوريّة (2/2)

هذا دستور البلاد. الناظم الأوّل والأخير لمسار الدول ومصيرها. الفيصل الوحيد عند كل خلاف أو اختلاف. المرجع الذي لا بدّ من احترامه ورفع شأنه والركون إليه، وإلا استحالت الحياة السياسية والوطنية نكتةً سمجةً وثقيلةً، واستحال البلد برمّته غابةً أو مزرعة.

لدينا دستور واضح وضوح الشمس في قارعة النهار. طبّقوه أو عدّلوه. لكن لا يجوز أن نتركه في يد الحمار، يأكله كلّما جاع ويسحقه كلّما شبع.

[VIDEO]

مواضيع ذات صلة

رجال ترامب هم رجال إسرائيل!

تعكس اختيارات الرئيس المنتخب دونالد ترامب لبعض فريقه الرئاسي الجديد عمق سياساته المقبلة تجاه العالم ككلّ، وتجاه منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. قيل لي…

هل ينفع الحوار مع إيران للاستغناء عن خدماتها؟

حين تتحدّث مع دبلوماسيين غربيين عاملين على مسائل لبنان والمنطقة هذه الأيام، يصغون بشيء من اللياقة لما يُعرض من التفاصيل المتعلّقة بصيغة لبنان، سواء في…

صواريخ إيران: شّبح صّينيّ مجهول

كيف تحوّلت إيران إلى مصنّع للصواريخ؟ الصواريخ الإيرانية الصنع تعزّز الآلة العسكرية الروسيّة في الحرب على أوكرانيا. وهذه الصواريخ الإيرانية تشكّل رأس الحربة العسكرية للحوثيين…

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…