ردّ الدائرة الإعلامية في “القوات اللبنانية” بقلم الزميل شارل جبّور، على الدكتور رضوان السيّد في مقاله الأخير: “المسلمون لم يفجّروا المرفأ”، هو بحدّ ذاته خطأ، شكلاً ومضموناً. فلا يمكن اعتبار الكلام المسطور في الردّ المتعجّل، مجرّد تعثّر في التفكير، أو انزلاق في العاطفة، بل هو تعبير صادق عن ورطة الإيغال في التكتيك، منذ عقد التسوية الأُحاديّة مع التيار الوطني الحرّ أو تفاهم معراب، فأفضت هذه الصفقة تدريجياً وبتسارع إلى الانحراف الاستراتيجي عن الدستور، وعن اتفاق الطائف، وعن المنطق الوطني السيادي، ولمّا يتوقّف الانحراف على الرغم من انهيار التفاهم شكلاً. فمنطق حكم الأقوياء وتحكّمهم في كلّ طائفة لا يزال سارياً في العقول.
يقول جبّور إنّه فوجئ بمقال السيّد، وكانت نظرته إلى الدكتور رضوان مختلفة تماماً، وهو لم يكن يتمنّى أن يردّ عليه.. مقال واحد صريح، وضع النقاط على الحروف، جعل النظرة تختلف إلى هذا المستوى؟
تفاهم معراب هو ما أعطى رئيس الجمهورية الغطاء المسيحي لسلطة التعطيل تحت عنوان “استعادة الحقوق المسيحية”. ولا يزال التعطيل سارياً دون أيّ هوادة
كان الأجدى سياسياً لو أنّ قيادة “القوات”، بما أنّها سيادية ومبدئية كما تقول، وتتّسم بالعقلانية والرصانة، قرأت بعين فاحصة هذا المقال الناقد، وتدارسته بعمق في اجتماعها الدوري، ليس من أجل الردّ عليه، عبر الدائرة الإعلامية كما حدث، فالأمرُ جَلَل، وهو أخطر من الاكتفاء بالبيانات، بل للتفاعل معه سياسياً، والبحث بجدّ في الأسباب، ومراجعة الحسابات، وفتح قناة التواصل وهي غير صعبة، والتحاور بين شركاء الخط السيادي الواحد، كما هو مفترض.
فالدكتور رضوان السيّد ليس كاتباً كباقي الكتّاب. هو صانع تجمّع سياسي (“التجمّع الوطني”)، وصانع سياسات في أكثر من مستوى وصعيد. هو ليس مجرّد كاتب، كي يردّ عليه كاتب من الطرف الآخر، ولو كان في دائرة إعلامية حزبية. هناك
قاعدة قانونية تقول بـ”توازي الإجراءات”. وقد أخلّ ردّ “القوات” بتلك القاعدة. وإنّ مجرّد الردّ، بهذه الكيفيّة وبهذا الأسلوب، يعزّز مصداقية الملاحظات التي أوردها الدكتور رضوان في مقاله الكاشف.
أمّا في المضمون فيبدو الردّ القواتي ممعناً في تبرير ما لا يمكن تبريره من الأخطاء السياسية ذاتها التي انتقدها الدكتور رضوان السيّد في مقاله، فضلاً عن أنّها بمآلاتها تنتهك الدستور وتعطِّل الدولة، وتمهِّد نفسيّاً للعودة إلى ما قبل عام 1990، أي إلى ما قبل الدولة.
أوّلاً، إنّ مقال الدكتور رضوان لم يحِدْ قِيْد أُنملة عن المنطق السيادي. فهو يعتبر أنّ القوات اللبنانية لحقت بالتيار الوطني الحرّ ورئاسة الجمهورية في تعطيل تشكيل حكومة برئاسة شخصية سنّيّة معتبرة. ورأى أنّه “ما بقيت جهةٌ مسيحيةٌ معتبرة ورشيدة في لبنان غير الكنيسة ممثَّلةً بالبطريركية المارونية، ومطرانية بيروت الأرثوذكسية. الكنيسة بجناحيْها تريد حكومةً يا ناس، أَوَلستم لبنانيّين، أَوَلا تُحِسّون بلوعات الشعب اللبناني؟”. فهل المنطق السيادي يقضي بتعطيل تشكيل حكومة بحجّة أنّها ستكون جزءاً من المنظومة السياسية؟ وهل بات الذهاب نحو خيار غير واقعي بالمرّة وغير عملي هو الانتخابات النيابية المبكرة بدلاً من تشكيل حكومة إنقاذية، من مصاديق السيادة الوطنية؟ ألم يعُد جليّاً أنّنا في وسط بازار سياسي رئاسي؟
ثانياً، يقول الزميل جبّور إنّ تجربة الأشهر المنصرمة منذ إسقاط المبادرة الفرنسية وإفشال تشكيل حكومة، تؤكّد صوابية موقف “القوات” من عدم جدوى تشكيل حكومة، وإنّ “المطلوب رفض منح الفريق الحاكم الشرعيّة والغطاء، والذهاب إلى الاستقالة من مجلس النواب من أجل فرض الانتخابات النيابيّة المبكرة من أجل تغيير الفريق الحاكم”. والجواب كان هو نفسه في مقال الدكتور رضوان. فكيف تطلب من الشعب المنكوب في معيشته إلى حدّ المجاعة أن ينتظر نتائج معركة سياسية شعبوية عنوانها التغيير السياسي من باب الانتخابات النيابية المبكرة؟ فإذا كانت الاستقالة من المجلس النيابي غير ممكنة كما تشتهي “القوات”، وإذا كان الوقت لم يعُد متاحاً لانتخابات نيابية مبكرة، وإذا كان الحصول على أكثرية نيابية لا يغيّر من التوازنات الواقعية شيئاً، كما أثبتت تجربتا عاميْ 2005 و2009، فما مغزى الكلام الذي بات بلا مضمون حقيقي؟ هذا ما قصده الدكتور رضوان في مقاله، وهذا ما يوجب على “القوات” إيضاح الموقف والهدف، لا ببيان سجالي.
يكفي القول إنّ أهل السنّة في لبنان، ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، اتّخذوا مواقف مفصلية من “لبنان أوّلاً” إلى الرهان المطلق على الدولة ومؤسساتها حتّى عندما كان الظلم يحيق بهم من كلّ جانب، من دون أيّ سند أو ظهير
ثالثاً، يقول الردّ إنّ “القوات” لم تكن جزءاً من المنظومة منذ عام 2005. ويجادل في أنّ “المنظومة هي المتحكّمة بالقرار السياسي، و”القوات” لم تكن يوماً متحكّمة بهذا القرار، إنّما مشاركة في السلطة ضمن التوازن الذي كان قائماً، وتجربتها في هذه السلطة، على محدوديّتها، شكّلت نموذجاً يتحدّث عنه الخصوم قبل الحلفاء”.
تجربة “القوات” في الحكومة كانت مختلفة، نعم. لكن هذا لا يُعفيها من مسؤوليّتها كجزء من السلطة، في مرحلة معيّنة. وليس من الضروري أن تكون حزباً متحكّماً بالقرار السياسي حتى تصبح جزءاً من المنظومة. يكفي أن تشارك من داخلها. ووزراء “القوات” لم يستقيلوا إلا بعد اندلاع ثورة 17 تشرين وظلّوا حتّى 2020 جزءا من الحكومة.
رابعاً، يقول جبّور في ردّه على الدكتور رضوان بشأن الانتخابات النيابية، ودور 14 آذار في تحصيل “القوات” ثلث نوابها في انتخابات عام 2009: “إنّ الانتخابات على أساس قانون تمثيلي، أي قانون 2018 (النسبي، مع صوت تفضيلي)، لا قانون البوسطات وغازي كنعان ورستم غزالة على غرار كلّ القوانين المعلّبة منذ عام 1992، هي التي تمثِّل أفضل تمثيل سياسي. وإنّ موقف “القوات” الوطني الذي لا رجوع عنه ولا مساومة عليه هو “استعادة الدولة لقرارها الاستراتيجي، وتغيير دور الدولة في إدارتها للشأن العام”.
هذا هو أوضح دليل على دفاع “القوات” حتّى اللحظة عن مضامين تفاهم معراب، ومنها اعتماد “الأقوياء في طوائفهم”، الذي يُلغي الحياة الديموقراطية الوطنية ويجعلها “ديموقراطية الطوائف”. وذلك حين يُنهي اتفاق الطائف والدستور، ويفرض إيصال كلّ نائب وكلّ رئيس من أصوات طائفته حصراً. وهذا ما يعزّز الطائفية ويوتّرها إلى أقصى حدّ، ومنها تقاسم الحصص الوزارية بعد احتساب حصّة رئيس الجمهورية، وتقاسم تعيينات موظفي الفئة الأولى بين “القوات” و”التيار”، أي التعدّي مسبقاً على دور رئيس الوزراء، وعلى مجلس الوزراء مجتمعاً، كسلطة تنفيذية. وكذلك اعتماد القانون الانتخابي النسبي مع صوت تفضيلي، الذي هو كناية عن نظام فدرالي ضمني ومخفّف، معطوفاً عليه إرساء اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة من دون ذكر إلغاء الطائفية السياسية، ولا كلّ الآليات المنصوص عليها.
تفاهم معراب هو ما أعطى رئيس الجمهورية الغطاء المسيحي لسلطة التعطيل تحت عنوان “استعادة الحقوق المسيحية”. ولا يزال التعطيل سارياً دون أيّ هوادة.
وبعد ذلك، ألم يكن الدكتور رضوان السيّد محقّاً في مصارحته؟
خامساً، قال الزميل جبّور، أخيراً، إنّ أكثر ما استوقفه قول الدكتور رضوان “إنّ أحداً من المسلمين من كلّ طوائفهم لا يريد القتال ولا الانفصال”، معتبراً أنّ هذا من قبيل التودّد لـ”حزب الله”، والدفاع عنه، وأورد كلاماً غير مفهوم عن أنّ هذا الموقف “يعكس عمق نظرته الإسلاميّة التي تتوحّد فيها قوى التطرُّف ضدّ الإنسانية ومفاهيم الدولة والحرية والشراكة والحداثة والحياد”!!.
والحقّ أنّ هذا الكلام المتوتّر يستحقّ التوقّف عنده كثيراً. لكن يكفي القول إنّ أهل السنّة في لبنان، ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، اتّخذوا مواقف مفصلية من “لبنان أوّلاً” إلى الرهان المطلق على الدولة ومؤسساتها حتّى عندما كان الظلم يحيق بهم من كلّ جانب، من دون أيّ سند أو ظهير.
إقرأ أيضاً: المسلمون لم يفجّروا المرفأ
في المقابل، استندت القوى المسيحية الأساسية، أي “التيار” و”القوات”، إلى هذا التباعد السنّي – الشيعي الواقع، فاستثمرت فيه، كلٌّ من جانب، والهدف المشترك واحد وهو: استرداد الامتيازات التي أضاعوها بما كسبت أيديهم في الحروب الأهلية مع الطوائف وفيما بينهم. وانتهى الطرفان عام 2016 إلى عقد صفقة تتجاوز اتفاق الطائف، بل تنقضّ عليه، وتهمّش دور رئيس الحكومة، أو دور أهل السنّة عامة.
لكنّنا اليوم أمام مفترق طرق، ولا مجال بعد للمناورات. وكما قال الدكتور رضوان السيّد في مقاله: “إمّا أن تتشكّل حكومةٌ للإنقاذ الوطني أو يجب أن يزول الرئيس اليوم قبل الغد”.