تصوروا، بعد تعطيل البلاد وتجويع العباد، وتفجير مرفأ بيروت، وجعْل تشكيل الحكومة ضرباً من المستحيل، طلع علينا الانتهازيون وبعض وسائل الإعلام، والتحق بهم يوم أمس الباسل جبران بمقولة لا يمكن وصفها: أنّ المسلمين (شيعةً وسنّةً) هم المسؤولون عملياً عن تفجير المرفأ، وفي طليعتهم بحسب هذه المؤامرة المخزية: النائب بهية الحريري، باعتبار أنّهم جميعاً لم يبادروا إلى رفع الحصانة عن زملائهم بمجلس النواب!
وسأعود لذلك خلال هذه المطالعة.
لكنّني لا أحسب أنّ هناك لبنانيّاً عاقلاً، جائعاً أو غير جائع، يجادل في ضرورة تشكيل حكومة، تقوم بمهامّ السلطة التنفيذية أو الإجرائية في البلاد. وما قال بذلك عن قناعة السواد الأعظم من اللبنانيين فقط، بل قاله وشدّد عليه كلُّ المجتمع الدولي والعربي أيضاً. ووحده رئيس الجمهورية لا يريد حكومةً تشكّلها شخصية سنّيّة معتبرة. وقد انضمّ إليه قبل فترة “قائد” القوات اللبنانية سمير جعجع!
هموم الرئيس “وقائد” القوات وجبران باسيل هي غير هموم المواطنين بالتأكيد. فنحن الشعب المسكين نريد حكومةً توقف الانهيار بالإصلاحات وبالتحدّث إلى المجتمع الدولي. ولا فائدة لتحقيق ذلك لا في مَن يكون وزير الداخلية ولا في فحص دم هذا الوزير المسيحي أو ذاك، وهل هو تابع بالفطرة والدم لعون وباسيل أم لا
بالطبع عون لا يقول في العَلَن إنّه كارهٌ للسنّة اللبنانيين والعرب منذ عدّة عقود، بل يزعم الحرص على صلاحيات الرئاسة من جهة، وعلى “حقوق” المسيحيّين من جهةٍ ثانية. وأيديولوجيّته السريّة “تحالُف الأقلّيّات”. لكن الآن حتى “الأقلّية” الحامية بزعمه للمسيحيّين تريد حكومةً للبلاد بعدما عجزت خلال عامٍ ونصفٍ، متضامنةً مع عون، عن الحيلولة دون تفاقم الانهيار الوطني والإنساني.
وكان صهر عون وخليفته في “مُلكه”، جبران باسيل، قد قال علناً قبل أيّام إنّه يُسلِّم أمره للسيّد (حسن نصر الله)، ويرضى منه ما يرضاه هو لهم. وعلى هذا القياس، وحسب هذا المنطق، وما دام الباسيل لا يزال واثقاً من حماية الحكَم المتحكّم وضمانته، فها هو السيِّد يريد حكومةً علناً أيضاً، فلماذا لا يرضى الباسيل وعمّه حكمه وقد احتكما إليه؟!
مرةً يجادل الرئيس، كما تقول أوساطه، في أن تجتمع للسنّة وزارتا الداخلية والعدل، كما عرض الحريري في تشكيلته الأخيرة. وبالطبع هي حجّةٌ داحضة لأنّ الميقاتي لم يعرضْها. ومرةً يقول، كما مع الحريري، إنّه يريد وزراء عشرة أو ثلثاً معطِّلاً، وهذا لا يقبل به أحد لا الرئيس المكلَّف ولا غيره لأنّها وصفةٌ للابتزاز والتعطيل في حين أنّ المُراد والمطلوب حكومة قادرة على العمل بدون خُنزوانات طائفية أو مصلحية. ومرةً ثالثةً ورابعةً وخامسةً يريد شبه حكومة a la حسان دياب التي تضمّ في صفوفها الزاهرة الجنرال محمد فهمي والجنرالة الأُخرى الخبيرة العالمية في الدفاع والسياسة الخارجية. ولا ننسى بالطبع وزير الطاقة حيث لا طاقة، ويرأس هو الرئيس حكومة الظلّ (المجلس الأعلى للدفاع) إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
أمّا “قائد” القوات اللبنانية فتجاوز عجائبيّات الرئيس ظاهراً، وانضوى تحت إحداها بالفعل. يقول هو عائداً إلى حقبة “حالات حتماً” إنّه لا يريد حكومة لأنّها ستكون جزءاً من المنظومة الحاكمة الفاسدة. وهو جزءٌ رئيسٌ في المنظومة منذ عام 2005، حين أخرجته قوى 14 آذار من السجن، ومنحته ثلث نوابه في انتخابات عام 2009.
وإذا كان الدكتور جعجع قد عاد إلى حقبة “حالات حتماً” رجاء منافسة الباسيل والثوّار أهل الهوّارة على أصوات المسيحيّين، فإنّ جورج عدوان النائب في كتلته الميمونة والثائر في البرلمان وعليه، يطلق النار فوراً حتى دون تذاكٍ مثل تذاكي باسيل وجعجع.
هموم الرئيس “وقائد” القوات وجبران باسيل هي غير هموم المواطنين بالتأكيد. فنحن الشعب المسكين نريد حكومةً توقف الانهيار بالإصلاحات وبالتحدّث إلى المجتمع الدولي
ماذا يقول الرجلان؟ يقولان: انتخابات مبكّرة. ولو تقرّرت الانتخابات الآن فإنّها وبالتجربة تحتاج إلى ستّة أشهر للإعداد لها، حسب آراء الخبراء، إلاّ إذا كان الجنرال محمد فهمي (وهو إحدى عجائب الرئيس مثل سليم جريصاتي) يستطيع الإعداد لها في ثلاثة أيّام! ثمّ إنّه حتى الانتخابات المبكّرة أو المتأخّرة تحتاج إلى حكومة، وليس مثل حكومة حسّان دياب الغائبة. إنّما لماذا نتساءل ونتشكّك؟ يمكن لمجلس الدفاع الأعلى بالطبع إقرار الانتخابات المبكّرة في ساعةٍ واحدة، لأنّ الرئيس المهموم طبعاً (!) بالدواء والغذاء والمحروقات وجريمة المرفأ والحرائق (وكلّها تُهِمُّ قائد القوات وليس جبران باسيل فقط)، لا يستطيع بالطبع أيضاً وأيضاً الانتظار لمعرفة رأي الشعب في سياساته الرشيدة على مدى قرابة السنوات الخمس، وكيف حفظ “حقوق” المسيحيّين واللبنانيّين جميعاً.
إنّ هموم الرئيس “وقائد” القوات وجبران باسيل هي غير هموم المواطنين بالتأكيد. فنحن الشعب المسكين نريد حكومةً توقف الانهيار بالإصلاحات وبالتحدّث إلى المجتمع الدولي. ولا فائدة لتحقيق ذلك لا في مَن يكون وزير الداخلية ولا في فحص دم هذا الوزير المسيحي أو ذاك، وهل هو تابع بالفطرة والدم لعون وباسيل أم لا.
وهناك اعتبارٌ آخر ما كان ليُثار لولا الطائفية البغيضة الظاهرة في تصرّفات الباسيل والقائد. أنتما لا تريدان الاعتراف بحقّ السنّة (لأنّ رئيس الحكومة سنّيّ) في المشاركة المحترمة في الشأن الوطني. وستظلاّن على هذا الإصرار الذي يمثّل خياراً خاطئاً بالكلّيّة (مثل الخيار المرّ 1979-1983، والوقوف العونيّ ضدّ إنهاء الحرب الداخلية واشتراع وثيقة الوفاق الوطني والدستور)، حتى لا يبقى في البلد مسيحيٌّ، ويتدمَّر العيش المشترك، الذي تكرهانه بدليل قانون الانتخابات الكارثيّ لعام 2018.
إنّ هذا الاستنفار البادي في المقالة، ليس سببه الانهيار الوطني. فهو مستمرّ منذ مدّة، ولا التحرّك للانتقام من السنّة بعدم تشكيل حكومة، فهذا واضحٌ عند عون، وصار واضحاً من أشهُر عند جعجع. إنّما السبب المباشر هي هذه المؤامرة الخبيثة والحثيثة من القوات وبعض وسائل الإعلام، حتى قبل الباسيل، للقول بفصاحة إنّ المسلمين سنّةً وشيعةً هم الذين فجّروا المرفأ!
عندما أشاهد صورة بهيّة الحريري كلّ ليلة على التلفزيون باعتبارها، إلى جانب آخرين من النواب المسلمين، أحد المشاركين في إعاقة العدالة عن إنصاف ضحايا جريمة التفجير، أشعر بغضبٍ شديدٍ لهذه الوقاحة وإرادة الانفصال عن المسلمين، التي بدأت بانتخاب عون، ثمّ قانون الانتخاب عام 2018، والآن برفض إقامة حكومة، واتّهام المسلمين بجريمة المرفأ، والذهاب للفيدرالية.. إلخ. كلّ ذلك يشبه بيانات الجبهة اللبنانية في السبعينيّات. والفرق أنّ أحداً من المسلمين من كلّ طوائفهم لا يريد القتال ولا الانفصال. فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
إقرأ أيضاً: تفجير بيروت جريمة.. ليس إهمالاً ولا “تلحيم”
ما بقيت جهةٌ مسيحيةٌ معتبرة ورشيدة في لبنان غير الكنيسة ممثَّلةً بالبطريركية المارونية، ومطرانية بيروت الأرثوذكسية. الكنيسة بجناحيْها تريد حكومةً يا ناس، أَوَلستم لبنانيّين، أَوَلا تُحِسّون بلوعات الشعب اللبناني؟ رئيس الجمهورية كلّف الجيش في عيده وقبل عيده بحفظ الاستقرار، فكيف يستطيع الجيش الجائع حماية الاستقرار من الجَوعى إلى الغذاء والدواء والكهرباء، المحتجزة أموالهم القليلة الباقية رسميّاً في لبنان، في المصارف الخالدة؟!
الخلاصة: إمّا أن تتشكّل حكومةٌ للإنقاذ الوطني أو يجب أن يزول الرئيس اليوم قبل الغد.