دخلت تونس مرحلة انتقالية كان لا بدّ منها في ضوء فشل التجربة، التي بدأت بسقوط نظام زين العابدين بن علي، في تحقيق أهدافها. طوال عقد من الزمن، منذ رحيل بن علي عن تونس مطلع عام 2011، لم تصبح تونس أكثر ديموقراطية ولا أكثر ازدهاراً. على العكس من ذلك حدث تراجعٌ يوميٌّ على كلّ صعيد في وقت بدا جليّاً أن لا هدف لحركة النهضة التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين سوى السيطرة على مفاصل الدولة، وتغيير طبيعة المجتمع التونسي كي يكون متخلّفاً ومنغلقاً على نفسه في آن.
تستهدف المرحلة الانتقالية، في ما يبدو، استغلال قيس سعيّد لعامل الوقت من أجل تمرير دستور جديد يعزِّز صلاحيات رئيس الجمهوريّة. سيسمح ذلك لرئيس الجمهورية بالعمل بعيداً عن التجاذبات السياسية التي جعلت المواطن العادي يترحّم، للأسف الشديد، على مرحلة ما قبل “ثورة الياسمين”.
ا خيار آخر أمام تونس سوى القيام بالإصلاحات المطلوبة في حال كانت ترفض التحوّل إلى دولة فاشلة برعاية الإخوان المسلمين. ستكون الأشهر القليلة المقبلة مهمّة بالنسبة إلى بلد يحتاج بالفعل إلى الديموقراطيّة، لكنّه يحتاج أيضاً إلى دستور جديد ينظّم الحياة السياسيّة فيه بعيداً عن الفوضى والمحسوبيّة والفساد
لم تكن السنوات العشر الأخيرة من تاريخ تونس سوى سنوات الجمود والتراجع المخيفين. حدث، بلغة الأرقام، جمود سياسيّ وتراجع اقتصاديّ وأمنيّ وحضاري واجتماعي في الوقت ذاته.
ليس سرّاً أنّ أكثرية المواطنين التونسيين تدعم الرئيس قيس سعيّد الذي يقود عمليّة التغيير التي تستهدف الخروج من حال الفوضى السائدة منذ 2011، التي كادت أن تقضي على مؤسسات الدولة التونسيّة الحديثة ذات القوانين العصرية. أسّس مؤسسات الدولة التونسيّة الحبيب بورقيبة وأنقذها زين العابدين بن علي مع رفيقيه الضابطين الحبيب عمّار وعبد الحميد الشيخ في السابع من تشرين الثاني 1987. ما لبث بن علي أن تفرّد بالسلطة التي أمضى فيها 23 عاماً تخلّلتها حسنات كثيرة وسيّئات تكفّلت بإطاحته بعدما وجد نفسه وحيداً في قصر الرئاسة، إثر تخلّي الجيش والقوات الأمنيّة عنه.
الفارق حاليّاً أنّ الجيش والقوى الأمنيّة ليسا في موقف محايد. على العكس من ذلك، إنّهما يدعمان قيس سعيّد بقوّة وحزم. يعكس هذا الموقف وجود صِمام أمان لتونس في وجه طموحات الإخوان المسلمين ومشروعهم. في أواخر 2010، رفض الجيش وقوى الأمن إنقاذ زين العابدين بن علي عندما حاول الاستعانة بهما. لم يطلق الجيش ولا رجال الأمن النار على المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع في تلك المرحلة، وأجبروا بن علي على الرحيل.
ما لا يمكن تجاهله أيضاً أنّ هذا الجيش لم يتدخّل عندما حدث التغيير في السابع من تشرين الثاني من عام 1987. لم يجد زين العابدين بن علي والحبيب عمّار وعبد الحميد الشيخ الذين كانوا يسيطرون على القوات المسلّحة أيّ صعوبة في إزاحة بورقيبة على الرغم من أنّه شخصيّة وطنيّة استثنائيّة. لم يستطع بورقيبة تهيئة ما بعد نهاية عهده. تمسّك بالسلطة على الرغم من تقدّمه في العمر، وعلى الرغم من أنّ مجموعة من النساء باتت تحكم البلد. الشيء نفسه حدث في أواخر عام 2010 عندما أصبح زين العابدين بن علي تحت سيطرة الزوجة ليلى طرابلسي وإخوتها وأفراد عائلتها. سيتبيّن مع مرور الوقت أنّ التاريخ يعيد نفسه في تونس، مع فارق أنّ الجيش يلعب هذه المرّة دوراً فعّالاً في دعم قيس سعيّد والإجراءات المتّخذة، ومن بينها تشكيل حكومة جديدة تكون حكومة المرحلة الانتقالية. ستهيّئ هذه الحكومة لدخول تونس عهداً جديداً يمتلك رؤية واضحة لِما يُمكن أن تكون عليه في حال كان مطلوباً انتظام الحياة السياسيّة فيها وإعادة الحياة إلى الحركة الاقتصاديّة والقطاعات المنتجة.
يسعى قيس سعيّد بكلّ بساطة إلى تدابير تعزِّز صلاحيّاته، وتتيح له إصدار تشريعات بمراسيم رئاسية تمهيداً للكشف لاحقاً عن تفاصيل الأحكام الانتقالية والمخارج القانونية التي ستُعتَمَد لإدارة المرحلة القادمة. كان لافتاً نشر التدابير المتّخذة في الجريدة الرسمية بعد حوالي شهرين من إعلان رئيس الجمهوريّة تجميد أعمال البرلمان وإقالة الحكومة وتولّي السلطات في البلاد بنفسه، مستنداً في ذلك إلى الفصل الـ80 من الدستور.
كانت السلطة التنفيذية، بموجب دستور 2014، في يد الحكومة التي تكون مسؤولة أمام البرلمان، لكنّها بموجب التدابير الجديدة، ستكون مسؤولة أمام رئيس الجمهورية.
ليس سرّاً أنّ أكثرية المواطنين التونسيين تدعم الرئيس قيس سعيّد الذي يقود عمليّة التغيير التي تستهدف الخروج من حال الفوضى السائدة منذ 2011، التي كادت أن تقضي على مؤسسات الدولة التونسيّة الحديثة ذات القوانين العصرية
هل يستطيع قيس سعيّد أن يكون بورقيبة آخر أو زين العابدين بن علي آخر، علماً أن ليس في الإمكان إجراء مقارنة بين أوّل شخصين شغلا موقع رئيس الجمهوريّة التونسيّة، خصوصاً أنّ بورقيبة كان شخصاً متقشّفاً ومثقّفاً، فيما كان بن علي بعيداً عن التقشّف والثقافة. ما يجمع بين بورقيبة وبن علي كان المحافظة على مؤسسات الدولة وفعّاليّة الإدارات الرسميّة. صحيح أنّ بن علي لم يكن يطيق ظهور أيّ شخصيّة سياسيّة في البلد، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الحكومات والإدارات في عهده الطويل كانت فعّالة إلى حدّ كبير…
لا خيار آخر أمام تونس سوى القيام بالإصلاحات المطلوبة في حال كانت ترفض التحوّل إلى دولة فاشلة برعاية الإخوان المسلمين. ستكون الأشهر القليلة المقبلة مهمّة بالنسبة إلى بلد يحتاج بالفعل إلى الديموقراطيّة، لكنّه يحتاج أيضاً إلى دستور جديد ينظّم الحياة السياسيّة فيه بعيداً عن الفوضى والمحسوبيّة والفساد والسعي إلى تدمير الإدارة عن طريق حشوها بمناصري الإخوان…
سيلعب قيس سعيّد الدور المطلوب منه في خدمة بلده. هل يسعى إلى أن يكون بورقيبة أو بن علي آخر؟ ليس واضحاً، أقلّه إلى الآن، لكنّ الثابت أنّه يستند في كلّ ما يقوم به منذ نحو شهرين إلى دعم مؤسّستيْ الجيش والأمن، وتدعمه قطاعات تونسيّة عدّة في مقدّمها المجتمع المدني الذي يعرف جيّداً الفارق بين ما يقوله الإخوان المسلمون في العلن وما يفعلونه في الخفاء.
إقرأ أيضاً: راشد الغنّوشي: نبوءة فيلتمان الخُمينيّة
إنّ الأساليب التي يعتمدها الإخوان لم تعد تنطلي على أحد، لا في تونس ولا خارج تونس. هذا لا يمنع التساؤل: تونس إلى أين؟ الرهان الأوّل والأخير على دور الدولة العميقة، وعلى دور المرأة التونسيّة، وعلى بقاء الجيش في موقع الحَكَم الذي لا يساند سوى الحقّ والمحافظة على السلم الأهلي. هذا ما فعله في نهاية عهديْ بورقيبة وبن علي. هذا ما فعله عندما اتّخذ قيس سعيّد خطواته الأخيرة بدءاً بوقف المسرحيّات الهزليّة التي شهدتها قاعة البرلمان في أثناء تولّي راشد الغنوشي رئاسته.