راشد الغنّوشي: نبوءة فيلتمان الخُمينيّة

مدة القراءة 7 د

هو خليطٌ بين فكر الخميني وسيّد قُطب، وحديث السّاعة في تونس والعالم العربيّ بعد إجراءات الرّئيس التّونسي قيس بن سعيّد. تارةً يُقدّم نفسه بمظهر الإسلاميّ المُتشدّد، وتارةً أخرى يُقدّم نفسه شخصيّة ليبراليّة تميل إلى العلمانيّة.

زعيم “حركة النّهضة” الإخوانيّة ورئيس مجلس النّوّاب التّونسي راشد الغنّوشي. تناقضات لا تنتهي، وتقلّبات في المواقف، بطلها مزاج الغنوشي الذي يُوصَف بأنّه أقوى رجال التنظيم العالمي لحركة “الإخوان المسلمين”.

هو الذي تنبّأ عنه مساعد وزيرة الخارجيّة الأميركيّة لشؤون الشّرق الأدنى سنة 2011 جيفري فيلتمان في رسالة للوزيرة هيلاري كلينتون: “عودته إلى تونس بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي ستكون شبيهة بعودة الخُمينيّ إلى إيران عقب سقوط نظام الشّاه محمد رضا بهلوي”.

سنة 1981، وعلى وقع الرّافعة الخُمينيّة، أسّس الغنوشي حزب “الاتجاه الإسلاميّ”، وغيّر تسميته سنة 1989 الى “حركة النهضة” خلال السّنوات الأولى من عهد الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي

في هذه السّطور، سنحكي حكاية “جامع التناقضات” الذي أيّد رفع حزب الله لسلاحه في وجه اللبنانيين في 7 أيّار 2008، ووصفَ حكومة فؤاد السّنيورة بأنّها “فاقدة للشّرعيّة”. لكن رفَض رفع الحزب سلاحه في وجه السّوريين…

اسمه الحقيقيّ هو راشد الخريجي. مولود في 22 حزيران 1941 في مدينة الحامة جنوب شرق تونس. تلقّى تعليمه الابتدائي في الحامة قبل أن ينتقِل إلى مدينة قابس حيث واصل تعليمه الثانوي. بعد ذلك، حطّ رحاله في تونس العاصمة ليحمل شهادة في “أصول الدّين” من جامعة الزّيتونة.

سنة 1964، توجّه الغنّوشي الإسلاميّ، الذي كان مُعجباً بالتّيّار النّاصريّ الصّاعد يومها، إلى مصر ليُكمل تعليمه في جامعة القاهرة حيث درس الزّراعة. لم تدُم إقامة الغنّوشي في أرض الكنانة طويلاً، وذلك نتيجة منع السّفارة التونسيّة في القاهرة الطلبة التونسيين من البقاء في مصر بسبب الخلاف بين الرّئيس التّونسي الأسبق الحبيب بورقيبة والأمين العام للحزب الحرّ الدستوري الجديد صالح بن يوسف المُقرّب من جمال عبد النّاصر.

من القاهرة حطّ الغنّوشي رحاله في عاصمة الأمويين دمشق لينال إجازة في الفلسفة سنة 1968.

لكنّ التّحوّل الكبير في حياة الغنّوشي كان في محطّتين رئيسيّتيْن. الأولى، نكسة حزيران 1967. إذ اعتبر أنّ ما حصل هو “الهزيمة التي تقدّم الدعم الضروري للخطاب الإسلاميّ”، وذلك في مقالٍ له باللغة الفرنسيّة.

أمّا الثّانية فكانت “الثّورة الخُمينيّة” التي أطاحت بنظام شاه إيران سنة 1978. وكان هذا واضحاً وجليّاً في مقالة للغنّوشي نشرها في مجلة “المعرفة” النّاطقة باسم الحركة الإسلاميّة في تونس (النّهضة لاحقاً)، تحت عنوان: “قادة الحركة الإسلامية المعاصرة: البنّا – المودودي – الخميني” في عام 1979.

مَدَح الغنّوشي الخميني كثيراً. ورأى فيه المخلّص. إذ اعتبر أنّ “الثورة الإيرانية كسرت إلى حدٍّ كبير ذلك القالب العقدي الذي سُجِنّا فيه”.

سنة 1981، وعلى وقع الرّافعة الخُمينيّة، أسّس الغنوشي حزب “الاتجاه الإسلاميّ”، وغيّر تسميته سنة 1989 الى “حركة النهضة” خلال السّنوات الأولى من عهد الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

في عهد الحبيب بورقيبة، وجّهت إليه السلطات التونسية اتّهامات بالتورّط في أعمال “إرهابية”، ومنها اتّهامه بحرق عدّة مراكز تعليمية، وخطف مسؤولين رسميين.

 لاحق القضاء راشد الغنوشي الذي مَثَل عدّة مرّات أمام محاكمه. في أوّل وقوفٍ له تحت قوس المحكمة، حوكِمَ بالسّجن لمدّة 11 سنة، قضى منها 3 سنوات من 1981 حتى 1984، ثمّ خرجَ في إطار عفو عامّ. إلّا أنّه عاد مرّةً جديدة للنّشاط السياسي المُعارض لحكم بورقيبة.

في المرّة الثّانية، قضت المحكمة بإنزال حكم السّجن المُؤبّد به، مع الأشغال الشّاقة، في 1987. لم يعتبر الحبيب بورقيبة الحُكمَ كافياً، فقدّم مَطلباً للرفع من الحكم إلى عقوبة الإعدام. هذا ما حَصَل، إلّا أنّ الحُكمَ لم يُنفّذ بسبب انقلاب 7 تشرين الثّاني 1987 الذي قاده الرئيس الجديد زين العابدين بن علي الذي أطلَقَ سراح الغنوشي في أيّار 1988.

لم يكن الغنّوشي في المنفى مُعارضاً لنظام الرّئيس بن علي فقط، بل كانَ مُعارضاً أيضاً للمصالح العربيّة، ومعادياً لدول مجلس التّعاون الخليجي، حاله حال قيادات تنظيم الإخوان

بعدَ خروجه قدّم الغنّوشي الطّاعة والولاء للرّئيس بن علي في حوارٍ أجراه مع صحيفة “الصباح” في 17 تمّوز 1988، عقب إطلاق سراحه. إذ أكّد أنّ الإسلاميين لن يخترقوا الجيش والشرطة، واعترف بقانونيّة مجلّة الأحوال الشخصية، التي تهدف إلى المساواة بين المرأة والرّجل في المعاملة والميراث، ومنع تعدّد الزّوجات، إذ قال “إنّها، في مجملها، إطارٌ نقيّ ينظّم العلاقات العائلية”.

لم يدُم شهر العسل بين الغنّوشي ونظام بن علي كثيراً. فظهرت الصّراعات بين قائد الحركة الإسلاميّة والنّظام العلماني التّونسيّ إلى العلن. هذه الخلافات دفعت الغنوشي إلى مُغادرة تونس إلى الجزائر العاصمة في 11 نيسان 1989.

من الجزائر، ذهب الغنّوشي إلى السّودان الذي كان يشهد تصاعداً للحركة الإسلاميّة، حيث نال جوازَ سفرٍ دبلوماسيّاً سودانيّاً. في سنة 1991 استقرّ في ضواحي العاصمة البريطانيّة لندن، حيث حصَل على اللجوء السياسي في آب 1993، بعدما حَكمت عليه المحكمة العسكريّة في تونس غيابياً بالسّجن المؤبّد بتهمة التآمر على رئيس الدّولة في آب 1992.

أثناء وجوده في منفاه الاختياريّ حيث مَكث 21 عاماً، منعت عدّة دول الغنّوشي من دخول أراضيها، مثل الولايات المتحدة، جمهوريّة مصر العربيّة، ولبنان.

لم يكن الغنّوشي في المنفى مُعارضاً لنظام الرّئيس بن علي فقط، بل كانَ مُعارضاً أيضاً للمصالح العربيّة، ومعادياً لدول مجلس التّعاون الخليجي، حاله حال قيادات تنظيم الإخوان.

وفي هذا الإطار، كشف مدير الاستخبارات العامّة السّعودية الأمير تركي الفيصل في عدّة مقابلات له أنّه “أثناء غزو نظام صدّام حسين لدولة الكويت، اجتمع وليّ عهد المملكة السّابق الأمير نايف بن عبد العزيز مع الغنوشي وبعض القيادات الإخوانيّة من جنسيّات عدّة. منهم عبد المجيد الزّنداني وحسن الترابي ونجم الدين أربكان”.

وعن تفاصيل اللقاء، يذكُر الأمير تُركي أنّ الأمير نايف سأل الوفد الإخوانيّ: “هل تقبلون بغزو دولة لدولة؟ هل الكويت تُمثِّل تهديداً للعراق؟”، قالوا: “والله نحن أتينا فقط لنسمع ونأخذ الآراء”.

بعد ذلك طار الوفد من الرّياض إلى العراق، وإذ بهم يصدرون بياناً يؤيّد غزو صدّام للكويت. “هل هذا ما يجب فعله وهل هذا الموقف يرتضي به العقل؟”، يسأل الأمير نايف بن عبد العزيز في مقابلة له مع جريدة “السّياسة” الكويتيّة عن الموضوع عينه.

مع اندلاع شرارة “الرّبيع العربيّ”، عادَ إلى تونس في 30 كانون الثّاني 2011 بعد الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي. كان في استقباله عشرات الآلاف من أنصار حركة النهضة في مطار قرطاج الدولي. وهذا المشهَد هو تحقيق لـ”توقُّع” جيفري فيلتمان الذي قال إنّ الرّجل سيعود كما الخُمينيّ.

استطاعت حركة النّهضة الوصول إلى الحكم في تونس بعد الانتخابات التي تلت سقوط بن علي. لم يترك الغنّوشي نقيضاً إلا وعقد معه تسوية أو تحالفاً كالباجي قائد السبسي ورجل الأعمال نبيل القروي وغيرهما.

النّقيض الوحيد الذي لم يستطع الغنّوشي أن يحتال عليه، كان الرّئيس الحالي قيس بن سعيد الذي قرّر أخيراً مُلاحقة قيادات وسياسيّي النّهضة المُتورّطين في صفقات فساد، ومن بينهم “نبوءة فيلتمان” راشد الغنّوشي.

إقرأ أيضاً: قيس سعيد ليس انقلابيّاً

لم تكن صورة الغنوشي ابن الـ80 سنةً يخرج من مجلس النّواب بلباسه الدّاخليّ في سيّارة أمطرتها حجارة “التّوانسة” سوى نتيجة اللعب على التناقضات وثمن الأخطاء السّياسيّة التي أتقن الغنوشي الوقوع فيها عند كلّ محطّة.

هل سقط الغنوشي فعلاً هذه المرّة؟ أم أنّه سينهض من جديد، كما سمّى حركته؟ هو الذي نجا من السجن ومن حبل المشنقة ومن المنفى ومن غيرها… هي ينجو من قيس سعيد هذه المرّة؟ أم إنّها النهاية؟

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…