حاصَر النائب جبران باسيل حزب الله من جميع الجهات، ثمّ طلب منه أن يكون “حَكَماً” في تأليف الحكومة وحماية حقوق المسيحيين: رَفَع ملفّ الحكومة إلى مصافّ المعركة الوجودية، وتمسّك بالثلث المعطِّل وأوجد له “مشروعيّةً” دستورية، وأوجب أن ينال كلّ اسم مسيحيّ موافقة بعبدا، ورفض الثلاث ثمانيات، وحَجَب الثقة مسبقاً عن حكومة الحريري، و”دَفَش” السيّد حسن نصرالله إلى الواجهة في ظلّ قرار استراتيجي لدى الحزب بالانكفاء والبقاء في الخطوط الخلفيّة، والتسمّر في الوسط ربطاً بحسابات داخلية وإقليمية ودولية…
في الجهة المُقابلة، يُسجّل الرئيس المكلّف سعد الحريري مواقف تأخذ أكثر المنحى الشخصيّ وسط كارثة حقيقية لا تحتمل، كأن يتمنّع عن فتح خطٍّ مع رئيس أكبر كتلة نيابية ومسيحية في البرلمان، فيما خطوط بيت الوسط “شغّالة” في كل الاتجاهات، ومساعد الأمين العام لحزب الله الحاج حسين خليل ضيف مرحّب به دائماً في مقرّ الحريري. أو كأن يزيح من درب التكليف بعد مرور ثمانية أشهر عجز فيها عن التأليف ولم يستطع إقناع الرأي العام بقفزه من مركب رئيس الحكومة المستقيل لـ”عيون الثورة” إلى مركب “المرشّح الطبيعي” في ظروف غير طبيعية.
يدرك باسيل جيّداً ماذا يعني للأميركيين والسعوديين أن تؤلَّف حكومة الحريري بإشراف مباشر على تفاصيلها من الأمين العام لحزب الله المتّهم أصلاً بالهيمنة على عهد ميشال عون
بالتأكيد، هو أوّل رئيس مكلّف يضع “التكليف” في حقيبته و”يطير” إلى حيث يمكن أن يحصّل الرضى الشخصي والسياسي عربياً على تكليفه.
وفي الوقت الضائع يشدّ حبل العصب السنّي، فيما “سوابقه” مليئة بمحطّات سَمَح خلالها بارتخاء هذا الحبل. يحصل ذلك في ظلّ تسليم مطّلعين بأنّ “الشيك” على بياض، الذي حصّله من دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين، بتكليف “مكفول” الأمد، هو “محلّيّ” نطاقه الطائفة، وقد يفقد صلاحيته أمام خطورة الأزمة وتداعياتها الكفيلة بقلب المعادلات، التي واكبت تكليف الحريري منذ أكثر من ثمانية أشهر.
عمليّاً، يدرك باسيل جيّداً ماذا يعني للأميركيين والسعوديين أن تؤلَّف حكومة الحريري بإشراف مباشر على تفاصيلها من الأمين العام لحزب الله المتّهم أصلاً بالهيمنة على عهد ميشال عون. هو المعطى الذي سيحاول الحزب تجنّبه لحسابات مرتبطة به قبل أن تكون لحماية أيّ طرف داخلي، بمعنى تحييد نفسه عن “تقرير مصير” تكليف الحريري.
وقد كان لافتاً ما قاله رئيس مجلس النواب نبيه برّي لجريدة “النهار” أمس، لناحية ربط تراجعه عن مبادرته بـ”توافر مبادرة أخرى مقبولة”، مع تكرار تمسّكه بالحريري رئيساً مكلّفاً، “وإذا اعتذر سيكون الانهيار التامّ”، مبدياً تخوّفه من “الناحية الأمنيّة”.
معادلة واضحة المعالم لن يستطيع حزب الله التحرّر منها في سياق الدور المتجدّد له على خطّين: تبريد الأجواء بين بعبدا وعين التينة وإبقاء محرّكات مبادرة برّي “شغّالة”.
لكن هل يمكن إيجاد مبادرة أخرى مقبولة؟ وهل مِن انهيار أفظع مِن ذاك الذي تتوسّع دائرته في ظلّ التكليف العالق؟
تقول معلومات إنّ الأوروبيين ينخرطون جدّيّاً في رسم مسار هذا الحلّ الشامل، الذي حدّد معالمه الأولى الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وذلك بالتنسيق مع الأميركيين وبالاتّكاء على ما يمكن أن تخلص إليه المفاوضات بين الرياض وطهران
في الواقع جوهر أيّ “مبادرة أخرى” يعني رئيساً مكلّفاً آخر، وهو الأمر المرفوض محلّياً حتى الآن من قبل برّي والحريري أوّلاً، ثمّ حزب الله. وحده تطوّر خارجي مؤثّر يمكن أن ينهي تكليفاً يجزم كثيرون أنّه لو قاد الحريري في الوقت الراهن إلى السراي فسيدفع ثمنه غالياً، بل سيخرج منه مهشّماً بفعل العلاقة غير القابلة للترميم مع العهد وتحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية. هي الأزمة نفسها التي تقود الحريري اليوم بغية تمرير “الكوارث” في عهد حكومة تصريف الأعمال، على أن يبدأ بالعمل “على النظيف” وفق ما تفرضه الأجندة الأوروبية، بعد وقوع الواقعة ورفع الدعم وغيرها من الملفات الضاغطة.
ومن اللافت، في ظلّ بلوغ السقوف مداها الأعلى، عودة الحديث مجدّداً عن “حكومة سياسية” بَيَّن مسار الأحداث أنّها مقبولة من الجميع تقريباً، بمن فيهم بكركي التي دعت إلى “حكومة أقطاب” خلال زيارة البطريرك بشارة الراعي الأخيرة لبعبدا، فيما يرفضها الرئيس الحريري.
في هذا السياق، يذكِّر مطّلعون بموقف السيّد نصرالله في أحد خطاباته حين طالب بحكومة يتمثّل فيها وزراء “من القماشة السياسية”، مؤكّداً ضرورة انخراط الجميع في الحكومة، وملمّحاً إلى مشاركة المقاطعين، أي القوّات والكتائب.
لكن أمام ارتفاع موجة تسونامي الكارثة وتنامي مخاطر الانزلاق نحو “الجحيم” المحتّم، بات الحديث عن ولادة حكومة، بشكل منفصل عن خريطة طريق شاملة للحلّ، كلاماً خارجاً عن أيّ منطق.
وفي هذا الإطار، تقول معلومات إنّ “الأوروبيين ينخرطون جدّيّاً في رسم مسار هذا الحلّ الشامل، الذي حدّد معالمه الأولى الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، وذلك بالتنسيق مع الأميركيين وبالاتّكاء على ما يمكن أن تخلص إليه المفاوضات بين الرياض وطهران”.
وهذا يعني، وفق مطّلعين، “وضع اللَبِنة الأولى لحكومة قد تكون حكومة انتخابات، فمجلس نوّاب جديد، فحكومة جديدة تتكفّل باستكمال الإصلاحات المطلوبة، وصولاً إلى الاستحقاق الرئاسي، بعد بروز تقاطع داخلي وخارجي يسلّم بأنّ معركة ميشال عون الحاليّة هي معركة رئاسة الجمهورية المقبلة وليست معركة حكومة”.
إقرأ أيضاً: آخر إنذار أوروبيّ: اتّفقوا مع “الصندوق”… وإلّا انهيار وعقوبات
وبالانتظار، لاقت مواقف الرئيس برّي أصداء سلبيّة في القصر الجمهوري ولدى باسيل. وقد رُصِدت تسريبات من جانب التيّار تفيد بـ”خطوة قريبة” لرئيس الجمهورية تكسر حدّة المراوحة.
وقال نائب التيّار جورج عطالله في حديث تلفزيوني: “هناك ثلاثة خطوط يُعمل عليها، من ضمنها استقالة نوّاب التيّار من المجلس أو أن يدعو الرئيس عون إلى طاولة حوار. لكن قبل ذلك ثمّة مبادرة، بمفعول تنفيذي كبير ومؤثّر، قد يلجأ إليها رئيس الجمهورية ومهّد لها باسيل في خطابه الأخير حين طلب من السيّد نصرالله أن يكون “الحَكَم” في ملفّ تأليف الحكومة”.