رَفَعَ الأوروبيون من مستوى جهوزيّتهم للتحرّك على الساحة اللبنانية. فقد “انفَلَشَ” المسعى الفرنسي على امتداد الاتحاد الأوروبي، الذي نقل ممثّله الأعلى للسياسة الخارجية جوزيب بوريل، أمس، بصفته “صديقاً” للبنان، سلسلة رسائل بالغة الوضوح والصرامة إلى المسؤولين اللبنانيين: “لا وقت لإضاعته، أنتم على حافة الانهيار المالي التام”.
مع ذلك، خَلَت مواقفه من النَفَس “التهديدي” غير الدبلوماسي، الذي سبق أن استخدمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مع الطبقة السياسية.
ستحضر نتائج لقاءات بوريل مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، والرئيس المكلّف سعد الحريري، وجهات سياسية وأمنية، وشخصيات من المجتمع المدني، على طاولة مجلس الاتحاد الأوروبي غداً في بروكسل، تحت عنوان إطلاق “برنامج دعم مالي متكامل للاستجابة الانسانية”، على بعد أيامٍ قليلة من مؤتمر دعم الجيش، الذي استضافته باريس، بمشاركة أوروبية وأميركية وعربية وخليجية، لكنّ المساعدة مشروطة ليس فقط بتشكيل حكومة وإقرار إصلاحات، بل بـ”اتفاق فوريّ مع صندوق النقد الدولي”.
أكّد مطّلعون على لقاءات بوريل مع عون وبري والحريري أنّ ممثّل الاتحاد الأوروبي لم يتطرّق إلى مسألة العقوبات بشكل مباشر، لكنها كانت حاضرة ضمن كلمته المكتوبة التي ألقاها في القصر الجمهوري
وكانت زيارة الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي إلى لبنان، عقب زيارات متعدّدة منذ آب 2019 لماكرون وموفدين رئاسيين فرنسيين، “ترميماً” للمبادرة الفرنسية، وتعديلاً في بوصلتها عبر تجاوزها تفاصيل الزواريب اللبنانية، في ما يتعلّق بشكل الحكومة وهويّة أعضائها، لتركّز على “الشروط” الإلزامية المطلوبة لاستكمال الأوروبيين مساعدتهم للبنان، التي “كانت بمعدل مليون يورو شهرياً العام المنصرم”، وفق تأكيدات بوريل.
وأكّد مطّلعون على لقاءات بوريل مع عون وبري والحريري أنّ ممثّل الاتحاد الأوروبي لم يتطرّق إلى مسألة العقوبات بشكل مباشر، لكنها كانت حاضرة ضمن كلمته المكتوبة التي ألقاها في القصر الجمهوري، حيث أكّد “عدم اتّخاذنا أيّ قرار في شأنها حتى الآن، لكنّها على الطاولة، ونحن ندرسها. وإن طُبّقت فستكون لتحفيز الطبقة السياسية على إيجاد الحلول السياسية، إلا أنّنا نأمل أن لا نسلك هذا الطريق”.
وفي ردّ على سؤال حول إذا كان رئيس الجمهورية ميشال عون من ضمن الشخصيات التي تعرقل تأليف الحكومة، وستلحقه العقوبات، قال بوريل: “أنا صديق، ولست بمُدّعٍ عام، ولست هنا لأوجّه اتهامات إلى أيّ شخص، بل لأفهم أكثر ما هي الصعوبات التي يواجهها لبنان. وإجراءات العقوبات طويلة، وليست ضمن العمل السياسي، وتحتاج إلى معلومات كثيرة
لنعرف مَن يقوم ومَن لا يقوم بما عليه. لا تنظروا إليّ كشخص يشير بإصبعه إلى أحد”، لافتاً إلى أنّ “الجميع مسؤول عن الأزمة، لكن بنسبٍ مختلفة”.
وفق مطّلعين، كرّر بوريل أمام مَن التقاهم الحديث عن “قلق الاتحاد الأوروبي من رؤية لبنان يغرق في أزمة قد تتطلّب عدّة سنوات للخروج منها، فيصبح الإنقاذ أصعب. أمّا الحلّ فهو متاح بتأليف حكومة، فيما الحكومة الحالية غير قادرة على الالتزام والتوقيع على أيّ شيء”.
على خطّ بري والحريري فيجمعهما موقف مشترك يسلّم باستمرار باسيل في مناوراته لكونه الرافض الأوّل لرئاسة الحريري للحكومة، والساعي إلى تكريس دوره الرئاسي في المرحلة المقبلة
ووفق المعلومات، بدا الموفد الاوروبي مهتمًّا كثيرًا بمعرفة العقبات التي تحول دون ولادة الحكومة وطَرَحَ أكثر من سؤالٍ في هذا السياق.
وتؤكد مصادر رئاسة الجمهورية أنّ بوريل “وَعَد الرئيس عون بدرس طلبه على طاولة دول الاتحاد في شأن المساعدة الاوروبية للبنان لاستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج”.
وركّز بوريل في كلمته التي ألقاها في بعبدا على البعد الداخلي للأزمة قائلًا: “أنا أطلق رسالة صارمة لكل القادة اللبنانيين، باسم الاتحاد الأوروبي، بأنّ الأزمة في لبنان هي صناعة وطنية وليست مفروضة من الخارج، والعواقب على الشعب كبيرة، والقادة يجب أن يتحمّلوا مسؤوليتهم. لا نفهم كيف مضى 9 أشهر منذ حصول التكليف ولم تتألّف حكومة”، مؤكّداً: “لدينا الموارد والنيّة، وفقط اتفاق فوريّ مع صندوق النقد الدولي من قبل حكومة جديدة تقرّ الإصلاحات سينقذ لبنان من الانهيار المالي المحتّم”.
وأكّد بوريل القرار الأوروبي بـ”حصول الانتخابات في موعدها”، عارضاً إرسال “فريق أوروبي لمراقبة الانتخابات إذا رغب لبنان بذلك”.
وأمس تسابقت بعبدا وعين التينة في تسريب فحوى كلام عون وبرّي أمام بوريل، مكرّستين مسافات التباعد، خصوصاً مع حديث رئيس الجمهورية عن “خصوصية الوضع اللبناني التي تتطلّب مقاربة واقعية وتشاركية وميثاقية في تكوين السلطة”، مشدّداً على “أهمية مساعدة أوروبا في استعادة الأموال المهرّبة إلى الدول الأوروبية”. واستحضر عون ملف التدقيق الجنائي “كأساس في مكافحة الفساد الذي تقف وراءه منظومة من السياسيين والاقتصاديين ورجال المال والأعمال”.
أمّا الرئيس بري فشرح مبادرته أمام الزائر الأوروبي والمراحل التي قطعتها، مؤكّداً أنّ “العقبات التي تحول دون تأليف الحكومة محض داخلية”.
في مقابل الاستنفار الأوروبي، وفي الوقت الذي فيه الفريق القريب من رئيس الجمهورية يروّج لـ”خطوة” سيبادر إليها الرئيس عون لكسر الجمود الحاصل على مستوى تأليف الحكومة، يطلّ اليوم النائب جبران باسيل في مؤتمر صحافي شامل يطرح فيه أفكاراً ومقترحات تعكس توجّهات بعبدا للمرحلة، مع “تشريحٍ” للعقبات التي حالت دون نجاح المساعي الأخيرة في “اجتماعات البياضة” التي انتهت بحربٍ كلامية غير مسبوقة بين الرئاستين الأولى والثانية.
تؤكد مصادر رئاسة الجمهورية أنّ بوريل “وَعَد الرئيس عون بدرس طلبه على طاولة دول الاتحاد في شأن المساعدة الاوروبية للبنان لاستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج
وفيما رَصَد البعض هدنة غير معلنة على خط بعبدا – عين التينة تُرجمت في تجميد التراشق بالبيانات، إلا أنّ مقدِّمة “nbn” أبقت على “النَفَس” التصعيدي نفسه، مشيرة إلى أنّ “في العهد القوي، الضعفُ هو الحاكم الأول، ومؤسسات الدولة تتآكل، فلا تغيير ولا إصلاح، بل فساد ينخر كل شيء، من بواخر البحر المعتمة إلى سدود البرّ القاحلة، وما بينهما من صفقاتٍ بالتراضي. وطالما أنّ تعويم الجيوب ماشي فالقاضي راضي”، مذكّرةً بأنّه “لم يبق من العهد سوى 500 يوم، ولم يتحقّق شيء ولم يبقَ شيء”.
من جهة أخرى، نجحت وساطة حزب الله نسبيّاً في التخفيف من حدّة السجالات، لكنّ الأمور، حتى في ظلّ المسعى الأوروبي، مفتوحة على تصعيد أكبر بين رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر من جهة، والرئيس نبيه بري والرئيس المكلّف من جهة أخرى، وستزيدها تأجيجاً المزايدات والتباعد في وجهات النظر في شأن إقرار البطاقة التمويلية بوصفها آخر الفرص المتاحة أمام السلطة لدرء مخاطر أكبر وأخطر كارثة إنسانية يتعرّض لها اللبنانيون منذ نهاية الحرب الأهليّة.
يحصل ذلك في وقت يُرفَع الدعم تدريجياً عن السلع الأساسية وصولاً إلى البنزين والدواء والمستلزمات الطبية من دون التوصّل إلى توافق حول آلية إقرار وتمويل البطاقة التمويلية.
إقرأ أيضاً: مؤتمر دعم الجيش… أو مؤتمر نبذ السياسيين
وهي عقدة داخلية تجزم المعطيات بأنّها “أحد أهم موانع تأليف الحكومة إلى درجة مكاشفة النائب جبران باسيل الخليلين في أحد الاجتماعات، قائلاً: “شيلوا من درب الحريري لغم رفع الدعم، فتتشكّل الحكومة في يومٍ واحد”.
أمّا على خطّ بري والحريري فيجمعهما موقف مشترك يسلّم “باستمرار باسيل في مناوراته لكونه الرافض الأوّل لرئاسة الحريري للحكومة، والساعي إلى تكريس دوره الرئاسي في المرحلة المقبلة”. وقد نُقل عن أوساط الطرفين “عدم تجاوبهما مع أيّ دعوة لرئيس الجمهورية إلى طاولة الحوار، لأنّ الحكومة تحلّ بجلوس عون والحريري وجهاً لوجه، وبتراجع رئيس الجمهورية خطوة إلى الوراء”.